تمهيد: لاشك أننا في حاجة إلي أن نعرف شيئاً عن مفهوم “الانثروبولوجيا” ما هي؟ وكيف صدرت الكلمة، وإلي أي حد تطورت الكتابات الانثروبولوجية،…

تمهيد:

لاشك أننا في حاجة إلي أن نعرف شيئاً عن مفهوم “الانثروبولوجيا” ما هي؟ وكيف صدرت الكلمة، وإلي أي حد تطورت الكتابات الانثروبولوجية، في ضوء ماضيها وأصولها التاريخية.

وتهدف الانثروبولوجيا إلي دراسة الإنسان إما ككائن فيزيقي حالي، وإما ككائن حضري، ومن هنا تستعين الانثروبولوجيا بعلوم التشريح المقارن، والبيولوجيا الإنسانية، وبعلم آثار ما قبل التاريخ، إلا أن الانثروبولوجيا من ناحية أخرى لا تدرس فحسب الإنسان ككائن وحيد أو منعزل، وإنما تدرسه أيضاً ككائن اجتماعي يحيا في مجتمع ويعيش في ثقافة وينتشر في الأرض زمراً، ومن هنا صدرت عن الانثروبولوجيا بعض الفروع والعلوم المتخصصة مثل الانثروبولوجيا الاجتماعية والانثروبولوجيا الثقافية، لدراسة الإنسان ككائن حضري يعيش في ثقافة.

وتجمع الانثروبولوجيا في علم واحد بين منظوري كل من العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، فتركز مشكلاتها علي الإنسان كعضو في المملكة الحيوانية، وعلي سلوك الإنسان كعضو في مجتمع من ناحية أخرى، وبالتالي فالانثروبولوجي لا يقصر نفسه علي دراسة أي مجموعة معينة من الناس، بل إننا نجده – علي العكس من ذلك – يهتم بالأشكال الأولي للإنسان وسلوكه بنفس درجة اهتمامه بالأشكال المعاصرة، إذ يدرس كل من التطور البنائي للبشرية ونمو الحضارات منذ أقدم الأشكال التي وصلتنا عنها أي سجلات أو بقايا، كذلك يوجه الأنثروبولوجي اهتماماً خاصاً إلي الدراسات المقارنة في سياق اهتمامه بالجماعات والحضارات الإنسانية المعاصرة.

وقد كثرت المصطلحات الانثروبولوجية، وتفشت الأخطاء اللغوية، والميثودولوجية (المنهجية) في استخدامها، وخاصة في الكتابات لانثروبولوجية القدبمة، فقد استخدم العلماء القدامي كلمة الانثروبولوجيا، كما لو أنها ترادف الأثنولوجيا كما أن الانثروبولوجيا قد ارتبطت في البداية بدراسة الشعوب والمجتمعات والثقافات البدائية، ولعل هذا الارتباط قد قام في جانب منه علي أساس أن كلمة الانثروبولوجيا تثير في الذهن معاني متعددة، ولذا سوف نحاول في هذا المقال أن نلقي الضوء علي مفهوم الانثروبولوجيا، وميادينها، وأهم فروعها الأساسية ثم علاقة الأنثروبولوجيا بغيرها من العلوم الاجتماعية الأخري.

أولا: تعريف مفهوم الأنثروبولوجيا:

ظهر هذا المصطلح في بريطانيا عام 1953 م، وكان المقصود به دراسة الإنسان من جميع جوانبه الطبيعية، والسيكولوجية والاجتماعية، ولذلك ظل حتى الآن يحمل معني الدراسة المقارنة للجنس البشري، إلا أن تزايد البحث وخاصة في المجتمعات البدائية أدي إلي تطورات هامة في النظرة إلي الأنثروبولوجيا، وخاصة في علاقتها بالأثنولوجيا، والاثنوجرافيا وعلم الآثار واللغويات، وغيرها من الدراسات التي تتصل بدراسة الإنسان.

غير أننا إذا تأملنا أصل كلمة أنثروبولوجيا من الناحية الاشتقاقية وجدناها مشتقة من الكلمة الإغريقية Anthropo أي الإنسان، وكلمة Logy أي العلم، أي أن الكلمة في معناها اللغوي هي درسة الإنسان، ونتيجة لتنوع الأنشطة التي يقوم بها الإنسان، فإننا نلاحظ أن الانثروبولوجيين قد أخذوا التعريف اللغوي لعلمهم مآخذ الجد، ولذلك يحاولون دراسة الإنسان وكل أعماله.

أي أن اصطلاح الأنثروبولوجيا هو اصطلاح شامل وواسع حيث أنه يشمل دراسة المواضيع المختلفة كالتطور البيولوجي والحضاري للإنسان، والعلاقات البيولوجية بين المجتمعات المعاصرة، والمبادئ التي تحكم  علاقات الشعوب بعضها مع البعض الآخر، خصوصاً الشعوب الصناعية، بيد أن المواضيع البيولوجية (الفزيقية) والاجتماعية هي مواضيع متداخلة ومتحدة بفضل تركيزها المشترك علي دراسة الإنسان لكنها في نفس الوقت مواضيع منفصلة ومستقلة بعضها عن البعض الآخر، بسبب تخصص علمائها إما بالمواضيع الإنسانية أو بالمواضيع الطبيعية.

ثانياً: مجال الانثروبولوجيا وفروعها:

باعتبار أن المجتمعات البدائية هي الموضوع الرئيسي الذي يضطلع بدراسته علم الانثروبولوجيا برمته، حيث تدرس مختلف فروع الانثروبولوجيا العامة، وكيفية تكيف الإنسان البدائي بمختلف البيئات الفيزيقية الجغرافية، والاجتماعية، والثقافية، فقد قدم علماء الانثروبولوجيا محاولات كثيرة لتحديد فروع الانثروبولوجيا ومجالاتها، فمثلاً قسمها رالف بدنجتون Ralph Pidington إلي قسمين رئيسين ويتعلق القسم الأول: بالانثروبولوجيا الفيزيقية، والانثروبولوجية الثقافية ثم تنقسم الانثروبولوجيا الثقافية عنده هي الأخرى إلي فرعين هما:

  • علم آثار ما قبل التاريخ.
  • الانثروبولوجيا الاجتماعية.

إلا أننا نجد عالماً آخر مثل فلكس كيسنج Felex Kessing يقسم هو الآخر مختلف العلوم الانثروبولوجية علي النحو التالي:

وبصفة عامة يمكن تقسيم مجالات الأنثروبولوجيا العامة إلى ما يلي:

  1. الانثروبولوجيا الفزيقية (البيولوجية).
  2. الانثروبولوجية الاجتماعية.
  3. الانثروبولوجية الثقافية.
  4. الانثروبولوجية التطبيقية.
  5. الانثروبولوجية الاقتصادية.
  6. الانثروبولوجية الطبية.

ولعل تعدد وتنوع هذه الميادين وتلك المجالات للانثروبولوجيا يرجع إلي أنها تجمع عدد من الجوانب المختلفة، جانب الإنسانيات Humanities، وجانب العلوم الطبيعية Natural، وجانب العلوم الاجتماعية Social Science، كما أن الانثروبولوجيا اننت في بداية ظهورها ررركز ظهورها علي دراسة المجتمعات البدائية بقصد التعرف علي الأشكال الأولي والبسيطة للنظم الاجتماعية، وبالأخص التجمعات القبلية في أفريقيا واستراليا ولكن نظراً لاختفاء كثير من ملامح الحياة البدائية نتيجة لاتصال تلك المجتمعات المختلفة بالحضارة الأوروبية، واكتساب تلك المجتمعات لملامح الحياة الحديثة المتقدمة بدأ ميدان الانثروبولوجيا يتسع ويمتد لبشمل دراسة بعض المجتمعات الحضرية المتقدمة، واتسع مجال البحث في الانثروبولوجبا بحيث يبدو للمتأمل في الوهلة الأولي أنها أقرب إلي علم الاجتماع ولكن علي الرغم من تداخل المجالات بين علمي الاجتماع والانثروبولوجيا لكن هناك معاير تتعلق بمناهج البحث في كل منهما تختلف وتتباين حسب تكنيكات الاستخدام في كل منهما

أن الاختلاف بين الاترويولوجيا وبين علم الاجناع هي اختلافات منهجية» وإن كانتهناك اختلاف بين الات البحث ومبادينه بين عل الاجتاع وبين الفروع الأخرىللانترويولوجيا النزيقيةء والاجتاعيةء والتغافية. والاقتصاديةء السبلسية. والطبيةءالتطيفيةا”.وفها بلي سوف نعرض بشكل موجز لأهم هذه الجالات:

الأنثروبولوجيا الفيزيقية (البيولوجية):

وتعني الانثروبولوجيا الفيزيقية أنها دراسة السجل البيولوجي للإنسان إذ تبدأ بدراسة المنزلة الحيوانية للإنسان، وتحاول اقتفاء أصل وتطور الإنسان من خلال الدراسات المقارنة، ويقوم بفحص طبيعة الاختلافات العنصرية بين الشعوب والأقوام، وتدرس نتائج العوامل الإيكولوجية المجتلفة وتأثيرها علي تشابه أو اختلاف أعضاء الجنس البشري وعلي نمو أو اضمحلال السكان؛ ويستعمل العالم الانثروبولوجي الطبيعي تكنيكًا خاصًا في بحوثه، وجمع معلوماته إلا أنه يعتمد في معظم دراساته على علوم مختلفة وكثيرة أهمها علم التشريح، وعلم الآثار، وعلم الكيمياء، وعلم النبات، وعلم الجيولوجيا.

وتدرس الانثروبولوجيا الفيزيقية السمات الفيزيقية للإنسان، أي أنها دراسة الإنسان من حيث هو كائن فيزيقي طبيعي، فتدرس الإنسان العضوي في نشأته الأولي وفي تطوره عن الرئيسيات حتى اكتسب الصفات والخصائص الإنسانية في صورة الإنسان العاقل Homo Sapiens ولذلك تعالج الأنثروبولوجيا الفيزيقة مثلا حجم الجمجمة Skull، وطول القامة ولون البشرة ونوع نسيح الشعر وشكل الأنف ولون العين، كما تتصل ألانثروبولوجيا الفيزيقية بدراسة التغيرات العنصرية وخصائص الأجناس وتتبع الموروثات الإنسانية.

الأنثروبولوجيا الثقافية:

تطور هذا الفرع بالذات في الولايات المتحدة الامريكية نتيجة اهتمام علماء الانثروبولوجيا الأمريكيين بدراسة ثقافة الهنود الحمر، وتهتم الانثروبولوجيا الثقافية بالثقافة في ذاتها، سواء كانت ثقافة أسلافنا أبناء العصر الحجري أو ثقافة أبناء المجتمعات الحضرية المعاصرة في أوروبا وأمريكا، فجميع الثقافات تستأثر باهتمام دراس الانثروبولوجيا، لأنها تسهم جميعًا في الكشف عن استجابات الناس – المتمثلة في الأشكال الثقافية – للمشكلات العامة التي تطرحها دومًا البيئة المادية (الطبيعية)، وعن تجارب الناس، والحياة، والعمل معًا، وتفاعلات المجتمعات الإنسانية بعضها مع البعض، وتتخذ دراسة الأنثروبولوجيا الثقافية جانبيين أساسيين هما:

الجانب الأول: هو الدراسة المتزامنة أو الآنية أو في زمن واحد Synchronic Study أي دراسة المجتمعات والثقافات في نقطة معينة في تاريخها.

والجانب الآخر: هو الدراسة التتبعية أو التاريخية أي دراسات Diachronic Method المجتمعات والثقافات عبر التاريخ.

الانثروبولوجيا الاقتصادية:

لقد ظهر هذا الفرع من علوم الانثروبولوجيا كمحصلة لاهتمام علماء الانثروبولوجيا بالنظم الاقتصادية للمجتمعات التقليدية؛ ومحاولة إيجاد صيغة ملائمة لتفسير الظواهر الاقتصادية في هذه المجتمعات في إطار الفكر الاقتصادي، وذلك من قبل علماء الاقتصاد والانثروبولوجيا، ويرجع الفضل في تحديد مسمي هذا الفرع إلي المؤرخ الاقتصادي “جراس” في مقاله الذي اعتبر نواة لذلك، والذي نشر بعنوان الانثروبولوجيا والاقتصاد حيث حدد فيه نطاق الاهتمام لهذا الفرع أو حدد فيه الانثروبولوجيا الاقتصادية بأنها الجمع بين الدراسات الانثروبولوجية والاقتصادية التي تناولت الاهتمام بطرق كسب العيش عند الشعوب التقليدية.

ويمكن تحديد أهم  مجالات الانثروبولوجيا الاقتصادية فيما يلي:

  1. النظام الاقتصادي: وهذا النظام هو جزء من النظام الاجتماعي والثقافي، والذي يهتم بإنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات في مجتمع معين.
  2. الإنتاج: وهو يقوم علي استغلال المواد الأساسية في المجتمع سواء كانت صناعية أم رعوية أم معدنية، ولكل مجتمع قواعده ونظمه التي تتعلق باستغلال هذه الموارد وبشكل خاص الطبيعي منها.
  3. تقسيم العمل: تعد ظاهرة تقسيم العمل ظاهرة عامة في المجتمعات الإنسانية، ويختلف ذلك التقسيم وفقا لاعتبارات عديدة أهمها شكل النظام الاقتصادي السائد بالمجتمع وطبيعته. وبشكل عام يمكن القول أن كافة المجتمعات الإنسانية تعرف شكلا أو أكثر من أشكال تقسيم العمل، والذي يرتبط بالقدرات البيولوجية باعتبارها محددًا هامًا من خلاله تفسر اختلاف الأدوار، وفي الواقع يتجاوز التحليل الأنثروبولوجي لهذه الظاهرة الجوانب البيولوجية ليقدم تفسيرات متنوعة حول مستوي التعقيد الاجتماعى والاعتبارات الثقافية التى تتحكم في تشكيل هذه الظاهرة، كما يأخذ في الاعتبار بعض الأبعاد الاقتصادية في المجتمع، واستراتيجية الحصول علي الحاجات الأساسية في المجتمع أو تحقيقها بين جماعة ما من الجماعات ففي المجتمعات التي يتم فيها الصيد بواسطة فرد واحد أو عدد قليل من الأفراد يلاحظ أن دور الرجل هو التخصص في صيد الحيونات الكبيرة، وفي المقابل تجمع المرأة الطعام في المنطقة المحيطة بالمسكن.
  4. التبادل: ويشير إلي العمليات المختلفة التي تتحرك في غضونها السلع والخدمات بين الأفراد والجماعات علي سبيل المثال بين المنتج والمستهلك والمشتري والبائع.

الأثنوجرافيا

حرفيًا “الكتابة عن الناس”، يشير هذا إلى البحث الذي يركز على الملاحظة المباشرة ووصف أنشطة بعض الأشخاص بالتفصيل. وغالبًا ما يؤكد الأشخاص الذين يصفون أعمالهم على أنها إثنوجرافيا أنهم، على عكس الآخرين، قد قبضوا على جوهر حياة الجماعة موضع الدراسة. ويمكن استخدامه أيضًا بالمعنى السلبي لتسمية العمل الذي يُعتقد أنه وصفي بشكل مجرد أو ليس له محتوى توضيحي.

ويهتم  الباحث الإثنوجرافي بالدراسة الوصفية للمجتمعات البدائية بينما يهتم باحث الانثربولوجيا الاجتماعية بالتحليل البنائي أو التركيبي للمجتمعات البدائية.

علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الاجتماع

أما عن علاقة الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع فإنها لم تطور بعد إلي المدي الذي كان ينبغي أن تصل إليه، ونجد كثير من علماء الانثروبولوجيا وعلماء الاجتماع قد أدركوا منذ أمد بعيد أن هناك كثير من الروابط الذي تجمع بين العلمين، وفي الحقيقية كان موضوع الدراسة في كلا العلمين مختلفًا بعض الشيء حيث كانت الأنثروبولوجيا تركز اهتمامها الأول علي دراسات الشعوب البدائية المنعزلة، بينما كان علم الاجتماع يركز اهتمامه الأساسي علي دراسة الحضارة الأوربية الغربية، وقد أدي هذا الاختلاف في الموضوع إلي أوجه اختلاف في مناج الدراسة فالانثروبولوجي الذي يدرس جماعة صغيرة الحجم نادرًا ما يحتاج أن يشغل نفسه مشكلات العينة -علي سبيل المثال- كذلك نجد أن استمارة الاستبيان وهي أحد أدوات البحث الهامة لدي رجل الاجتماع لم تستخدم علي نطاق واسع في الدراسات الانثروبولوجية: إلا أننا نجد من ناحية أخرى أن المشكلات الأساسية في كل من الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع تصل إلي درجة من التشابه تجعل من المحتم علي كلا العلمين أن يصلا إلي نظرية متقاربة، هذا إن لم تكن نظرية واحدة بالنسبة لكلاهما، وقد أصبح مفهوم الثقافة يستخدم علي نطاق واسع عند علماء الاجتماع؛ وقد ثبت في هنا الصدد أنها أداة بحث ومفيدة، ويحرص كل من علماء الاجتماع والانثروبولوجيا بدرجة متزايدة علي أن يستفيدا بوضع نظرياتها بالمادة التي يقدمها كلا منهما.

أهم المفاهيم الأساسية فى الأنثروبولوجيا الاجتماعية:

البناء الاجتماعي:

أما عن أهم المفاهيم الأساسية فى الأنثروبولوجيا الاجتماعية فنشير فى البداية إلى المفهوم المحورى وهو مفهوم “البناء الاجتماعى”. ومعنى هذا أن الأنثروبولوجى الاجتماعى يفكر فى “المجتمع” وليس فى “الثقافة” كتكوين منظم لأجزاء متعددة. وأن واجبه الأول هو اكتشاف هذا النظام وتفسيره. وهو يتكون من العلاقات القائمة بين الأفراد. وهى علاقات تنظمها مجموعة من الحقوق والواجبات المعترف بها.

المكانة والدور:

وفى مجال البناء الاجتماعى نجد – كما تقول لوسى مير – مفهومين انتشر استعمالهما فى أمريكا بفضل رالف لينتون وهما: المكانة والدور. فالمكانة هى مركز الشخص بالنسبة لمركز غيره ممن له معهم علاقات اجتماعية. فالألفاظ التى تطلق عن المكانة تحمل دائماً معنى العلاقة مع شخص آخر مثل الابن والناظر والزوج والبائع فى متجر. وقد يشغل الإنسان عدة مكانات. كما تدل على ذلك تلك الأمثلة التى تقدمها لوسى مير. وقد يكون له مكانة كلية. وهى إما مرتفعة أو منخفضة نسبياً بالنسبة لغيره من أعضاء المجتمع.

إلا أن لفظ المكانة بهذه الصورة هو لفظ محايد. ولذلك فإن استخدامه لوصف شئ يسعى الإنسان إلى الوصول إليه. يكون استخداماً خاطئا. فالمكانة قد تكون موروثة. متل القوانين التى تنص على اعتلاء ولى العهد فى نظام ملكى للعرش عقب وفاة الملك. وقد تكون المكانة مكتسبة متل العمل السياسى الذى يوصل أحد الأشخاص العاديين فى نظام جمهورى إلى منصب رئيس الجمهورية.

ويهتم الباحت الأنثروبولوجى بالطريقة التى يحدد بها المجتمع الأدوار التى يقوم بها الناس. وكذلك نتيجة عدم أدائها على الوجه الأكمل. وتتضمن الأدوارمسئوليات القيادة والأمر والحماية والطاعة والتعاون ونقديم الهدايا والمكافات فى المناسبات… إلخ. إن “الدور” فى المعنى اللغوى العادى هو الجزء الذى يقوم به الممثل فى روايته. وهذا المعنى هو مايجعل لفظ “الدور” مناسباً فى هذا المجال. فالحوار مكتوب للمثل لكنه يمكن أن يلقيه بطريقة جيدة أو رديئة أو قد ينسى الحوار أو قد يهرج. كما قد يقدم للجمهورمفهوما جديداً عن الشخصية التى يمثلها أو يقدم صورة بعيدة عما يتوقعه الناس منها بحيث يقابلونه بصيحات الاستهجان بدلاً من التصفيق. وبنفس الطريقة نبذل جميعاً ما فى وسعنا لنقوم بدورنا المتواضع. وعندما تتكون لدى الناس أفكار جديدة عن أداء أدوارهم يتحقق التغير الاجتماعى. والقواعد التى تحدد الأدوار تسمى “توقعات الدور” أما الضبط الاجتماعى فيشمل جميع درجات الضغط الاجتماعى الذى يهدف إلى حمل الناس على القيام بأدوارهم وفقا لهذه التوقعات. وعلى الممثل أن يلتزم بالحوار المكتوب له. كذلك لكل مجتمع طريقته المقبولة فى التعبير عن العلاقات التى يؤدى الدور من خلالها. ولنأخذ مثال بسيط: طريقة التحية المهذبة بالنسبة للهندوس هى وضع اليدين معاً بنفس الطريقة التى يصلى بها المسيحيون. وبالنسبة للصينيين تكون التحية بالانحناء مع إخفاء اليدين فى كم الرداء الواسع. أما الأوروبيون الغربيون فيحيون بالمصافحة بالأيدى. وهذه كلها فروق ثقافية. فالثقافة هى الطريقة التى نعبر بها ونرمز إلى العالقات الاجتماعية. وهى الأشياء التى يراها الأنثروبولوجى أول ما يرى فى ميدان عمله والتى تكون أكبر جزء من وصفه لما يرى. وقد قال نادل Nadel أن الثقافة والمجتمع هما البعدان لكل الحياة الاجتماعية. إلا أن رادكليف براون قال بحق أن التعريفين اللذين وضعا للأنثروبولوجيا بوصفها تدرس التقافة أو تدرس المجتمع (أى البناء الاجتماعى) يؤديان إلى نوعين مختلفين من الدراسة يصعب معهما الوصول إلى اتفاق فى تحديد المشكلات.

النظم الاجتماعية:

ويمكن القول أن الأنثروبولوجيين الاجتماعيين يدرسون تحت مفهوم البناء الاجتماعى الوحدات الرئيسية المكونة لهذا البناء والمقصود مجموعة العلاقات والروابط والقواعد المتصلة بقطاع أو جانب معين من جوانب حياة هذا المجتمع. فمجموعة العلاقات التى تتعلق بتكوين الأسرة ونظام القرابة وتربية الأطفال وشسبكة العلاقات بين الزوجين وبينهما وبين الأولاد. والعلاقات مع الأصهار… إلخ كل ذلك يكون ما يسمى نظام الأسرة أو النظام العائلى.

كذلك الحال بالنسبة لمجموعة العلاقات والروابط والتنظيمات المتصلة بمجال كسب العيش: الإنتاج. والتوزيع والاستهلاك والادخار… إلخ، كل ذلك يكون تحت مسمى النظام الاقتصادى. أما توزيع القوة فى المجتمع وقواعد استخدامها وآثار هذا الاستخدام فيدرس تحت اسم النظام السياسى. وهناك قطاع عريض أخير من العلاقات المتصلة بالمعايير الدينية والأخلاقية والفن والجمال… إلخ وهو نظام المعايير أو النظام المعيارى وإذا اقتصر على الدين والأخلاق فيعرف بالاسم الأشهر: النظام الدينى.

تلك أهم الوحدات الرئيسية للبناء الاجتماعى. أو النظم الاجتماعية الأساسية أى التى لا يخلو منها مجتمع سواء عاش فى الماضى أو يمكن أن يعيش فى المستقبل. ونظم الأسرة والقرابة قد تتغير وتتنوع وتتباين عن بعضها تباين شديد ولكن الأساس أن الطفل الإنسانى لا يمكن أن ينشَأ سوياً بدون أسرة، وبالتالى فالأسرة هى التى تزود المجتمع بالأفراد. وبدونها لا يوجد مجتمع. كذلك لا توجد جماعة اجتماعية – إلا افتراضيا فقط – يمكن أن تعيش دون نظام اقتصادى، حتّى فى مجتمعات الوفرة البدائية (حيت الالتقاط والجمع دون جهد إنتاجى حقيقى للثروة) كانت هناك مشكلات التوزيع، ومشكلات أخرى.

أما مشكلة القوة فهى تنشأ بمجرد أن يبلغ عدد أفراد الجماعة ثلاثة (راجع حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا أحدكم”)، فالاختلاف حول قضية فى هذه الحالة قد يسفر عن فريقين واحد فى جانب واتنان فى جانب. فكيف يمارس أحد الفريقين القوة على الفريق الآخر ويحمله حملاً على الانصياع لرأيه. فعملية تنظيم استخدام القوة هى عملية اجتماعية أزلية وأبدية. لأنه لا وجود لمجتمع ولا استمرار للحياة دون هذه الظاهرة. التى تتطلب قواعد وتنظيمات للتحكم فيها، وبالتالى تستحق من الباحث الأنثروبولوجى اهتمام جاد.

إن تعريفنا للنظم الاجتماعية الرئيسية التى تمتل أهم مكونات البناء الاجتماعى لا ينفى أن هناك نظمًا اجتماعية أخرى كثيرة. فالتنظيم الاجتماعى هو شبكة منظمة للعلاقات الاجتماعية فى مجال معين من مجالات الحياة. لذلك ليس عجيبا أن تتعدد وتتنوع النظم الاجتماعية بتغير وتنوع الحياة الاجتماعية. ولا يمكن لهذا السبب أن نستطرد فى شرح بعضها لأنه من الصعب أصلاً الإحاطة بها. ولعلنا نكتفى بالنظم الرئيسية كنماذج ومدخل للموضوع.

الثقافة:

كتب إدوارد تايلور Edward Burnett Tylor فى كتابه الذى نشر عام 1871 فى تعريف الثقافة يقول “إنها ذلك الكل المركب الذى يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاقيات والقانون والتقاليد وأى قدرات أخرى وعادات يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً فى المجتمع”. فهذا التعريف ‏ الذى يعتبر فى الواقع حصراً – قد ضُغط أحياناً فى عبارة واحدة تقول إن الثقافة تتضمن جميع أنواع السلوك المكتسب. ومن الناحية العملية نجد أن الطابع المميز لدراسة الثقافة هو أنها تهتم “بالتقاليد” و”الأساليب” أما الفن فيقصد به تايلور Taylor “الأساليب الفنية”. والثقافة هى الملكية المشتركة لمجموعة من الناس يشتركون فى نفس التقاليد. وهذه المجموعة من الناس بالتعبير الاجتماعى هى ما يطلق عليه اسم المجتمع.

  • تحليل الثقافة:

فى الوقت الذى كان تلاميذ مالينوفسكى يبدأون فيه أول دراساتهم الميدانية. اختاروا المجتمع الذى يذهبون إليه وأعدوا أنفسهم لدراسة “ثقافته”. لكنهم لم يتصوروا أن كل ما عليهم عمله هو حصر العناصر التى تتكون منها الثفافة. وهو اتجاه يؤدى إلى المحال والعبث: متل اعتبار بعض التقاليد ذات الدلاللات المتباينة أشد التباين مجرد “طرق” للتصرف ومعالجتها على نفس المستوى (مثال ذلك: الحكومة البرلمانية والأكل بالعصى فى اليابان). هذا ولم يسمح مالينوفسكى لتلاميذه أن يرتكبوا مثل هذا الخطأ فقد أصر على تحليل الثقاقة ليس إلى عناصر traits بل إلى نظم institutions. فالحكومة البرلمانية فى رأيه عنصرثقاقى أساسى. أما العصى المستعملة فى الأكل فهى جزء بسيط من مركب النظم الذى يواجه به الناس حاجاتهم إلى التغذية.

التغير الاجتماعي:

تتعدد مفهومات التغير الاجتماعي، حيث يعرف على أنه “كل تحول يحدث في النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية من الناحية المورفولوجية أو الفزيولوجية خلال فترة زمنية محددة، ويتميز التغير الاجتماعي بصفة الترابط والتداخل، فالتغير في الظاهرة الاجتماعية سيؤدي إلى سلسلة من التغيرات الفرعية التي تصيب الحياة بدرجات متفاوتة”(2).

كما عرفه موريس جينزبرج Morris Ginsberg على أنه “التغير الذي يحدث في طبيعة البناء الاجتماعي مثل زيادة أو تناقص حجم المجتمع أو في النظم والأجهزة الاجتماعية أو التغيرات اللغوية وكذلك يشمل المصطلح التغيرات في المعتقدات والمواقف”(3).

وكذلك عرفه جيرالد زالت مان G.Zaltman بأنه “تلك العملية التي تحدث بوساطتها تغيرات في بناء ووظيفة النظام الاجتماعي، فالبناء يتمثل في الأفراد وأوضاع الجماعات الذين يكونون هذا البناء وكذلك العلاقات الاجتماعية، أما الجانب الوظيفي فهو الدور والسلوك الفعلي للفرد في الموقف المتاح”(4).

طقوس المرور:

طقوس المرور (طقس العبور) هي الطقوس التي تجري بمناسبة العبور من حالة سابقة أو وضع سابق إلى حالة لاحقة ووضع جديد. وهي حفل مرور يحدث عندما يترك الفرد مجموعة واحدة لدخول مجموعة أخرى. وتنطوي على تغيير جوهري في الوضع الاجتماعي للفرد. وهو مصطلح فرنسي ابتكره العالم الإثنوجرافي أرنولد فان جينيب Arnold van Gennep في مؤلفهطقوس المرور”. ولقد تم اعتماد المصطلح بالكامل في الأنثروبولوجيا وكذلك في الأدب والثقافات الشعبية للعديد من اللغات الحديثة. ويقام الحفل في وقت مهم للانتقال من مرحلة من مراحل الحياة إلى مرحلة أخرى. ومن أمثلة ذلك احتفالات أعياد الميلاد، احتفالات البالغين، حفلات الزفاف، الجنازات، إلخ. بما في ذلك مراسم الدخول وحفلات الدخول، بالإضافة إلى الانضمام (البدء) في وقت الانضمام إلى الجماعات.


(2) محمد ياسر الخواجة، علم اجتماع التنمية: المفاهيم والقضايا، دار ومكتبة الإسراء، طنطا، 2009، ص 16.

(3) فادية عمر الجولاني، التغير الاجتماعي: مدخل النظرية الوظيفية لتحليل التغير، المكتبة المصرية، الإسكندرية، بدون سنة نشر، ص12.

(4) عبد المنعم عبد الحي – وجدي شفيق عبد اللطيف، علم الاجتماع الحضري والصناعي، بدون دار نشر، 2004، ص287.