تمهيد: لقد اتخذ الانقسام الاجتماعي إلى طبقات أو شرائح اجتماعية تاريخيًّا أشكالاً متعددة، ويميز علماء الاجتماع بشكل عام، وبغض النظر عن اختلاف مواقفهم…

تمهيد:

لقد اتخذ الانقسام الاجتماعي إلى طبقات أو شرائح اجتماعية تاريخيًّا أشكالاً متعددة، ويميز علماء الاجتماع بشكل عام، وبغض النظر عن اختلاف مواقفهم النظرية بين أربعة نماذج كبرى للتدرج الاجتماعي عرفتها وتعرفها المجتمعات الإنسانية وهي النظام العبودي، والنظام الإقطاعي، والنظام الطائفي، والنظام الطبقي الاجتماعي الحديث(1).

واستخدم مصطلح الحراك الاجتماعي حديثًّا ليعبر عن عملية الانتقال بين هذه الطبقات وتبدل وتغير المستوى التعليمي والفكري لأبناء المجتمع وما ينبني عليه من تبدل المراكز والأدوار داخل المجتمع، واستُخدم كذلك ليصف تغير موقع سكن الفرد.

وتعتبر عملية الحراك الاجتماعي من العمليات الاجتماعية المعبرة عن انفتاح المجتمع، وهي تعتبر غالبًا نتيجة للتطور الديمقراطي الذي فتح الباب أمام كل أبناء المجتمع لتقلد المواقع المختلفة دون النظر إلى معايير طبقية أو امتيازات سابقة لفئة اجتماعية بعينها، وهو الأمر الذي لم يتح كثيرًا في عصور الاستبداد والحكم المطلق والتي اتسمت بجمود الوضع الطبقي لفترات ليست بالقصيرة، ولم يكن ليستطع الفرد بمهارته العملية أو مقدرته العلمية والفكرية أن يغير كثيرًا من الوضع الذي نشأ فيه صغيرًا؛ نظرًا لعدم انشغال القائمين على الحكم بتحقيق العدالة الاجتماعية في مجتمعاتهم وتنميتها بشكل مستدام.

وعملية الحراك الاجتماعي قد تكون تلقائية نتيجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية، أو قد تكون مستهدفة من قبل جماعات الضغط أو الأحزاب أو الحكومات في سعيها تجاه التنمية الشاملة وتحقيق العدالة في توزيع المراكز والأدوار على ذوي الخبرات والمؤهلين لتحقيق أهداف التنمية بتكامل واستدامة.

وسوف نحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على عملية الحراك الاجتماعي من حيث ظهور المصطلح وتطوره، ثم نعدد بعدها أنماط الحراك الاجتماعي وأيضًا الخصائص المختلفة، ونعرض لأهمية عملية الحراك الاجتماعي في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة ودعم التنمية السياسية والاقتصادية، ثم ننتقل إلى العوامل المؤثرة في الحراك الاجتماعي والتي تتضمن التعليم، والخلفية الاجتماعية، والتحولات السياسية، والاختلافات الثقافية، والإعلام، والاتصال الثقافى، والهجرة، والحراك المهني، ثم إلى نظرة على الحراك الاجتماعي في مصر، وأخيرًا معوقات الحراك الاجتماعي.

أولاً: ظهور مفهوم الحراك الاجتماعي:

ويعتبر مصطلح الحراك الاجتماعي من أحدث المصطلحات الاجتماعية. وهو كفعل إنساني فردي أو جماعي يشترط توافر القدرات البشرية من نفسية وعقلية وجسدية. ويتفق علماء الاجتماع أن مفهوم الحراك الاجتماعي Social Mobility من المفاهيم المحورية في علم الاجتماع، ويرجعون الفضل في صياغته وبعثه إلى الوجود واستخدامه في الدراسات والبحوث الاجتماعية لـ” بتريم سوروكينPitirim Sorokin “. فهو يعرفه على أنه: حالة انتقال الفرد أو الجماعة من طبقة أو مستوى اجتماعي/اقتصادي إلى طبقة أخرى. ويتم الانتقال بواسطة حراك يقوم به الفرد أو الجماعة بعد أن يكونوا قد كونوا ثقافتهم الخاصة بموضوع التغيير، أو عبروا عن ثقافة من يريد التغيير وهو يطلق على كل أنواع النشاط الإنساني الهادف كالتعليم والتجارة وتكوين العلاقات الاجتماعية .. إلخ(2).

وقد حدد سوروكين، أربعة أشكال أساسية للحراك الاجتماعي على النحو التالي(3):

  1. الحراك المهني: ويقصد به تغيير الفرد لمهنة أسرته، وتبديل الأبناء لمهن آبائهم نتيجة لازدياد التخصص المهني، ويساعد الحراك المهني على تحرك الفرد اجتماعيًّا واقتصاديًّا عن مكانة أسرته الاجتماعية والاقتصادية، وصعوده أو هبوطه في السلم المهني، ثم إلى تغيير مكان إقامته، واختلاطه بأفراد جدد ذوي ميول واتجاهات مغايرة عن الوسط الذي نشأ فيه. وأصبحت وراثة الأبناء لمهن الآباء ظاهرة نادرة في المجتمع المعاصر، فقد يعمل أحد أفراد الأسرة في  التجارة وآخر في التدريس وثالث في مهنة الطب، بينما يعمل قريب لهم في حرفة يدوية كالنجارة أو الحياكة.
  2. الحراك المكاني: هو أكثر أشكال الحراك الاجتماعي انتشارًا في المجتمع الحضري الصناعي، فقد أصبح من الشائع انتقال الفرد من إقليم إلى إقليم، أو من حي إلى آخر، وكان الحراك المكاني محدودًا في المجتمع التقليدي، وكان الفرد يدين بالولاء للأرض التي يُولد فيها ويمارس نشاطه الاجتماعي والاقتصادي فوقها، ولكن أدى تقدم وسائل المواصلات ووسائل النقل، ونشأة مهن جديدة ذات أجور مرتفعة في أماكن متفرقة، إلى ازدياد الحراك المكاني للأفراد، وهجرتهم من الأقاليم التي يقيميون بها مع أسرهم إلى مواطن العمل الجديدة. وقد لاحظ علماء الاجتماع أن الأفراد في المجتمع الحضري أصبحوا أقل ارتباطًا بالأرض التي ينشئون عليها، وزاد تحرك الأفراد من بلد لآخر، وزاد تغيير الأفراد للوحدات السكنية، وتبديلهم لجيرانهم.
  3. الحراك الاقتصادي: ويُقصد به تغير مراكز الأبناء الاقتصادية عن مراكز الآباء والأجداد، فلقد أدى تغير نظام الملكية، ونمو الملكيات الفردية، ونشأة نظام الأجور، وتقييم العمل على أساس إنتاج الفرد ومقدار ما يبذله من جهد ونشاط، إلى تغير المراكز الاقتصادية للأفراد، وأصبح من الطبيعي أن تتغاير المراتب الاقتصادية للأبناء عن مراتب آبائهم، لتغير المهن التي يقوم بها كل منهم، ولعل تغاير المراتب الاقتصادية يعني أن التكوين الطبقي أصبح مرنًا ومتغيرًا، وأصبح من السهل أمام الأفراد الانتقال إلى مرتبة أعلى من مرتبة أسرهم بمقدار ما يبذلوه من جهد وعمل، وما يقوموا به من نشاط في مهنهم، وصار من الطبيعي أن تنخفض مكانة الأفراد الاقتصادية عن مكانة أسرهم، إذا ما فشلوا في مهنهم.
  4. الحراك الفكري: يقصد به مقدار ودرجة وقوة ارتباط الفرد بالقيم والأفكار المستحدثة المختلفة، وقد ساعدت وسائل الاتصال مثل الراديو والسينما والتليفزيون والصحف والكتب والمجلات وازدياد الابتكارات الحديثة في العلوم والفنون، إلى ازدياد فرص الحراك الفكري، كما أدى ازدياد حركة الكشف العلمي إلى ضعف ارتباط الأفراد بالقيم القديمة، واتجاههم نحو تقبل الأفكار والمبادئ المستحدثة، وأدى ازدياد وتنوع مراكز البحث العلمي وزيادة الإنفاق عليها إلى زيادة في البحوث والدراسات العلمية وزيادة النشاط الفكري المصاحب لها.

ثانيًا: أنماط الحراك الاجتماعي:

يعد الحراك الاجتماعي نتيجة حتمية للتفاعلات الاجتماعية الحادثة داخل المجتمع، وقد ذهب “سوروكين” إلى إعطاء الحراك الاجتماعي بعدًا مهنيًّا في تفسيراته له أكثر من غيره من الأبعاد الأخرى، وأيده في ذلك عالم الاجتماع الأمريكي لويد وارنر “Lued Warner، وأضاف أبعادًا وشروطًا أخرى عندما وضع مقياسًا للحراك يتألف من ستة خصائص هي الثروة، والدخل، والمهنة، والتعليم، ونوع السكن، ومصدر الدخل. ويتضح لنا من تلك العناصر أنها لا ترتبط بالمهنة فقط؛ فقد تكون هناك ثروات لأشخاص لا مهنة لهم ولهم حراك خاص بهم. بل حتي العاطلين عن العمل لهم حراكهم المناسب، وأحيانًا غير المناسب لهم ولغيرهم. ولكن الحراك يبقى عبارة عن محاولات للانتقال مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون مقبولاً من وجهة نظر المتحرك(4).

وقد ميز علماء الاجتماع بين أنماط كثيرة من الحراك داخل البناء الاجتماعي للمجتمع المعاصر، وهناك ثلاثة أنماط رئيسية للحراك الاجتماعى وهي الحراك الجغرافي وهو الانتقال من مكان لآخر، والحراك الأفقي وهو الحركة من جزء من أجزاء النسق الاجتماعي إلى جزء آخر، والحراك الرأسي، وهو عبارة عن فقدان أو اكتساب مكانة اجتماعية. والحقيقة أن الأنواع الثلاثة من الحراك لها أهميتها وجديرة بالدراسة إلا أن اهتمام علم الاجتماع قد تركز بالدرجة الأولى على الحراك الرأسي(5).

ثالثًا: خصائص الحراك الاجتماعي:

تتعدد خصائص عملية الحراك الاجتماعي في المجتمع الحديث، ومن خلال الوقوف على هذه الخصائص سوف تتضح لنا أهمية الحراك كعملية اجتماعية ترتبط بالتحديث والتطوير في المجتمع، وتتمثل أهم هذه الخصائص كما يراها الباحث فيما يلي:

  1. مقياس لدرجة التقدم: يعد الحراك الاجتماعي سمة مميزة للمجتمع الحديث، بل هو أحد المقومات الرئيسية للمجتمع المتحضر، والذي يتميز عن المجتمع الإقطاعي التقليدي، الذي يعد مجتمعًا مغلقًا، لا يتحرك الفرد فيه خارج الجماعة التي ينشأ فيها لوجود حواجز اجتماعية تربط الفرد بجماعته(6).

مرآة الثقافة: وليس من شك أن الثقافات على أنواع، فمنها ما يدعو إلى التآلف الاجتماعي بين فئات المجتمع، كما في الدعوتين الدينيتين: الإسلامية والمسيحية. وقد تتضارب ثقافات الأفراد والجماعات تضاربًا يصل إلى حد التناقض لينتج عن ذلك صراع ثقافي (يرتبط به غالبًا عمليات إقصاء سياسي أو اجتماعي من بعض الأدوار أو الحقوق الاجتماعية للأقليات). وهذا ما يحدث أحيانًا بموجب دعوات مبنية على أسس فكرية وفلسفية كما في دعوات “هنتنغتونHuntington ” وأمثاله، وهو صاحب القول المشهور بأن الحضارات وإن كانت قد تقاسمت البشرية إلا أن التلاقح الحضاري مستحيل بينها لوجود اختلافات وتناقضات بين الشعوب(7).

  • مقياس للدافعية: والحراك الاجتماعي يعتبر مقياسًا هامًا يعكس الطريقة التي يحسن الناس الأحرار بها أوضاعهم في المجتمع، وبالحراك الاجتماعي الصاعد يقل ارتباط الدور الاجتماعي بالطبقة التي ينتمي إليها الشخص أو بدخل والديه(8).
  • يعكس انفتاح المجتمع: ويفترض الحراك الاجتماعى فى نمطه المثالى مجتمعًا مفتوحًا؛ يعطي قدر من السيولة والحركة تتيح للأفراد أن يتحركوا بحرية عبر السلم الاجتماعى على قدر ما يتوافر لهم من قدرات، وعلى قدر ما يبذلونه من جهد دون النظر إلى مكانهم الاجتماعى عند الولادة، ومن ثم فإن الحراك الاجتماعى إذا ما وجد فى هذه الصورة المثالية فإنه يعد مؤشرًا على أن المجتمع قد تجاوز النظرة التقليدية المحدودة التى تقدر الفرد فى ضوء مكانته الموروثة، واتجه إلى تقدير الأفراد فى ضوء مكانتهم المكتسبة. ولا نحسب أن هذه الصورة المثالية متحققة بهذا الشكل فى مجتمع من المجتمعات. فظروف الحياة الاجتماعية تفرض صورًا من الكبح والاستبعاد واللامساواة، التى تجعل هذا النموذج المثالى صعب المنال”(9).
  • متعدد الصور: إن الحراك ليس واحدًا وإنما يتخذ صورًا مختلفة، فهناك الحراك داخل الجيل، أي الذى يحققه الفرد عبر حياته، وهناك الحراك بين الأجيال، أي ذلك الذى يحققه الفرد مقارنًا بالموقع الذي كان يحتله أبواه، والحراك فى الحالتين ليس حراكًا مطلقًا يترتب عليه تغير كلي فى بناء الطبقات في المجتمع، وإنما هو حراك نسبي يتيح للأفراد الحركة داخل بناء طبقي ثابت. وفى ضوء ذلك فإن الحراك الاجتماعي لا يمكن أن يكون حراكًا مطلقًا، بل هو أيضًا حراك نسبي؛ ومن هنا كانت التفرقة بين الحراك الاجتماعي المطلق Absolute social mobility والحراك الاجتماعي النسبي Relative social mobility، حيث يشير الحراك المطلق إلى انتقال جماعات من الأفراد من طبقة إلى أخرى أو من شريحة إلى أخرى، وهو يحدث فى حالات التغير الواسع النطاق الذى يحدث على أثر تغير البناء المهني أو الصناعي للمجتمع الذى قد يؤدي إلى تحول أعداد كبيرة من السكان من الأعمال اليدوية إلى الأعمال الإدارية والخدمية. أما الحراك النسبي فهو الحراك الذى يحدث بين الطبقات عبر انتقال أفراد من طبقة إلى أخرى دون حدوث تغيرات جذرية فى بنية الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية، ولا يرتبط الحراك الاجتماعي فى الكثير من الأحيان بصور تحقيق العدالة فى مجتمع ديمقراطي مفتوح(10).
  • يرتبط بالتغير في الأدوار: أي التغير في مراكز الأشخاص، وهو قد يحدث في أشخاص بالذات يقومون بأدوار في النسق الاجتماعي، ذلك أنه خلال فترة طويلة من الزمن تصبح مثل هذه التغيرات لا مفر منها لأن الناس يتقدمون في السن ويحالون إلى المعاش أو يموتون(11).
  • يرتبط بالتغير الاجتماعي: حيث يرى الباحث أن عوامل التغير الاجتماعي يمكن أن ينظر إليها كعوامل للحراك الاجتماعي وهي كالتالي(12):
  • العامل البيئي المتعلق بالبيئة الجغرافية وما يحيط بها من ظروف طبيعية ومناخية.
  • العامل السكاني باعتبار أن الأفراد هم العنصر الفعال في حمل لواء التغيير.
  • الثورات والحروب التي تخلق موجات التغير وتبرز حتميته.
  • التقدم التكنولوجي الذي شهدته الإنسانية في القرون الأخيرة وأدى بالتغير إلى مدى واسع غير محدود.
  • العوامل والتيارات الاقتصادية والسياسية.
  • ظهور الإيديولوجيات الجديدة والاتجاهات الفلسفية التي تشكل أساليب الفكر والسلوك.
  • سهولة الاتصال بين المجتمعات وانتقال الأنماط الثقافية الحضارية والعمرانية.

رابعًا: أهمية عملية الحراك الاجتماعي:

للحراك الاجتماعي أهمية كبرى من وجهة نظر الباحث وقد يكون مقصودًا من قبل الحكومات أو الأحزاب وجماعات الضغط وذلك من أجل ما يلي:

  1. تحقيق العدالة الاجتماعية: حيث تشير أفكار التنمية البديلة والأدبيات المعارضة للفكر الليبرالي إلى عدة حقائق أهمها(13):
  2. أن الاستغلال بأنواعه حلقة هامة تعوق الانطلاق وتسهم في اللامساواة، وتناقص توزيع الفرص وهدر الإمكانات.
  3. أن تركز الثروة والسلطة في يد شرائح محدودة العدد – يجهض فرص نمو الوعي بالمصالح الوطنية والمصالح الجماعية المشتركة.
  4. أن ظروف المجتمعات في العالم الثالث تحتاج انطلاق مبدع يغير من نسق القيم الفردية إلى القيم الجماعية، وينمي البواعث المعنوية للسلوك محل البواعث الاقتصادية الصرفة، ويحل قيم المساواة والتكافل والمشاركة محل الأنانية والاستئثار والإضرار بمصالح الغير.

من هنا. تتضح أهمية الحراك الاجتماعي في تحقيق العدالة الاجتماعية: فالطبقة الاجتماعية التي يولد بها الأشخاص لا يجب أن تقرر الحياة التي سيعيشونها.

ومن الناحية الاقتصادية – يوجد أيضًا مبرر اقتصادي قوي – هو: أن الإمكانات غير المستغلة (كفاءة الغير منتمين لطبقات اجتماعية عالية) تعتبر موارد إنتاجية مهدرة لا يمكن أن تتحملها أي دولة، وهذه الإمكانات إذا استغلتها الدولة تمكنها لتنافس بفاعلية في السوق العالمي(14).

  • تحقيق التنمية المستدامة: وتعرف على أنها “التنمية التي تهيئ للجيل الحاضر متطلباته الأساسية والمشروعة، دون أن تخل بقدرة المحيط الطبيعي على أن يهيئ للأجيال التالية متطلباتهم”، أو بعبارة أخرى، “استجابة التنمية لحاجات الحاضر، دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة على الوفاء بحاجاتها” (15).

وتتضمن عملية التنمية المستدامة في البعد الاجتماعي منها تنمية بشرية تهدف إلى تحسين مستوى الرعاية الصحية والتعليم، فضلاً عن مشاركة الجماهير في صنع القرارات التنموية التي تؤثر في حياتهم، بالإضافة إلى عنصر العدالة أو الإنصاف والمساواة. وهناك نوعان من الإنصاف هنا، وهما: إنصاف الأجيال المقبلة، التي يجب أخذ مصالحها في الاعتبار، والنوع الثاني هو إنصاف من يعيشون اليوم من البشر ولا يجدون فرصًا متساوية مع غيرهم في الحصول على الموارد الطبيعية والخدمات الاجتماعية، وتهدف التنمية المستدامة إلى تقديم العون للقطاعات الاقتصادية غير الرسمية، وتحسين فرص التعليم، والرعاية الصحية بالنسبة للمرأة(16).

ويدعم زيادة الحراك الاجتماعي التحرك باتجاه التنمية المستدامة بخلق قوى عاملة أكثر تأهيلاً، وتضع الأشخاص في الوظائف الصحيحة التي تناسب مواهبهم. على سبيل المثال شركة Sutton Trust قدرت المكاسب الاقتصادية من ابتكار موبايل جديد أكثر اجتماعيًّا (من حيث الإمكانات)، إضافة إلى القوى العاملة الماهرة بأكثر من (160) بليون في العام بحلول عام (2050)(17).

  • التغير والتحديث السياسي: وهي عملية ممهدة للحراك الاجتماعي وتتمثل في إعادة توزيع السلطة، وتعديل ميادين الضبط الاجتماعي، وتفكيك طبقة الصفوة التقليدية.

ويجدر الإشارة هنا إلى طبيعة تقلد الصفوة للأدوار في المجتمع، حيث تصل الصفوة أو الأقلية إلى موقعها المسيطر بواسطة الانتخاب العادي أو لقيامها بثورة أو بواسطة امتلاكها لوسائل الإنتاج في المجتمع.

وفي الغالب تتضمن الأقلية المسيطرة في المجتمعات الحديثة بعض هؤلاء المختارين لمواقع القيادة ورئاسة الدولة عن طريق الانتخاب، إلا أن الصفويين (أصحاب مذهب الصفوة) يزعمون أن الكسب الانتخابي لا يتم بالوسائل الديموقراطية تمامًا، بل إن ظهور سيطرة الأغلبية – من وجهة نظرهم – على الأقلية ما هي إلا مظهر خادع؛ حيث تسمح مواقع الأقلية لهم بالمناورة عن طريق استخدام الدعاية الماهرة لاختيار المرشحين بحيث تكون نتيجة الاختيار هي غالبية مرشحي الصفوة.

وسواء أكان هذا أم ذلك ففي النهاية تستطيع الأقلية (الصفوة) بما لها من حسن تنظيم وتماسك أن تسرق من الأغلبية سيطرتها. ولا يتوقف الأمر عند الصفويين على هذا الحد، بل إنهم يرون أن الأقلية لا تصنع أو تتخذ القرارات وحسب، وإنما لديهم من الأساليب ما يجعل الأغلبية تذعن وتطيع(18).

وفي هذا الإطار يجدر الإشارة إلى إسهام جوزيف لابالومبارا Joseph LaPalombara في هذه القضية. فقد حاول لابالومبارا أن يحدد خصائص الأنساق السياسية والتغير السياسي، وصاغ من أجل ذلك أربعة محكات. تعتبر مقياسًا للتغير والتحديث السياسي وهي كالتالي(19):

الأولى: درجة التباين البنائي لتلك التنظيمات المشتغلة بأداء الوظائف السياسية والتي هي “تحديد السلطة للقيم” من أجل المجتمع. فهي تختص بتأسيس بناءات وأدوار جديدة لأداء الوظائف السياسية وظهور التخصص وتقسيم العمل بين أولئك المتخصصين (أي شاغلي الأدوار السياسية).

الثانية: الحجم وهو معدل النشاط السياسي مهما كان شكله النظامي، بالنسبة لكل أنشطة المجتمع. ولكن هذا المحك لا يقيس درجة التحديث.

الثالثة: درجة التوجه نحو الإنجاز التي يتم تطبيقها على التعيين بالوظائف السياسية.

الرابعة: درجة العلمانية والرشد في أداء الوظائف السياسية.

  • دعم التنمية الاقتصادية: في السنوات القليلة الماضية نجد حكومات من توجهات متنوعة قد دعمت فكرة إنشاء مبدأ الجدارة؛ بحيث يمكن صقل المواهب من كل الخلفيات الاجتماعية فتؤدي إلى المنفعة الاقتصادية والاجتماعية لكل من الشخص والدولة. وقد استخدمت عبارات مختلفة لتصف هذا المفهوم مثل “توسيع المشاركة” و”الحراك الاجتماعي” ويوجد إجماع سياسي كبير حول هذا التوجه السياسي(3).
  • تغير النظام: ويعني التغير في البناءات المحددة مثل صور التنظيم والأدوار ومضمون الدور. ومثال ذلك الانتقال من الملكية المطلقة إلى الديموقراطية. وقد تكون بعض التغيرات التي تحدث في بعض أنظمة المجتمع قليلة نسبيًّا إلا أن انتشارها بعد ذلك يؤدي إلى تغيرات هامة في البناء الاجتماعي بأسره(20).

خامسًا: العوامل التي تؤثر في الحراك الاجتماعي:

يتأثر الحراك الاجتماعي بالعديد من العوامل الاجتماعية ولعل أهمها التعليم والهجرة والمهنة، والتحولات السياسية والاجتماعية والثورة التكنولوجية وعولمة الإعلام، وفيما يلي تفصيل لهذه العوامل كالتالي:

  1. التعليم: وحول دور التعليم في الحراك الاجتماعي يؤكد كل من ديكلان جافني وبن بومبرج Declan Gaffney & Ben Baumberg في دراستهما بعنوان “تفكيك الحواجز التي تعترض الحراك الاجتماعي” أنه: من خلال البحث في تراجع عملية الحراك الاجتماعي بمرور الوقت في المملكة المتحدة وجد أن التعليم له الدور الرئيسي حيث وجدت جو بلاندن Jo Blanden وزملائها أن التحصيل التعليمي بدءًا من العمر (16) عام كان المحرك الرئيسي. فتم دراسة انحسار الحراك الاجتماعي من خلال تحليل (زيادة الارتباط بين دخل الوالد وتعليم الإبن)، فوُجد أنه يتحدد بزيادة العلاقة بين دخل الآباء وتعليم الأبناء؛ فالأبناء ذوي الوالدين منخفضي الدخل بدوا أنهم أقل حظًا في الأداء بالمدرسة. بينما الأبناء لوالدين مرتفعي الدخل قد حققوا مخرجات تعليمية مرتفعة. ذلك يعني أننا إذا استطعنا تقليل ارتباط دخل الوالدين بالتحصيل التعليمي للأبناء أو قللنا التفاوت بين دخل الآباء فإن الحراك الاجتماعي من الممكن أن يزداد في بريطانيا. وقد قامت جو بلاندن بتوسيع تحليلها لحراك الدخل خلال المملكة المتحدة لتنظر إلى المقاييس الدولية لكل من حراك التعليم والدخل. فوجدت أن الدول التي تنفق أكثر على التعليم لديها حراك اجتماعي أعلى بشكل مطلق (تقليل درجة ارتباط مخرجات التعليم بالطبقة الاجتماعية للوالدين)(21).
  2. العوامل التي تؤثر في علاقة التعليم بالحراك الاجتماعي:

وتتخلص هذه العوامل كما أوضحها نَن Nunn  وزملاؤه عام (2007) فيما يلي(22):

  • رأس المال الاجتماعى: فإذا لم يكن للفرد دافع قوي نحو الاندماج، وتبني النماذج الإيجابية، وروح المخاطرة، والثقة، فإنه من غير المتوقع أن يتأثر حراكه بالتعليم تأثرًا كبيرًا.
  • رأس المال الثقافى: المتمثل فى مزيد من التعليم المستمر واكتساب المهارات.
  • خبرات الطفولة: المرتبطة بنوعية حياة الأسرة، وبناء الأسرة، والرعاية قبل سن المدرسة، حيث تنتج كل هذه الأمور نمطًا من النمو يستمر مع الشخص عبر فترات حياته المختلفة.
  • فرص العمل المتاحة وخبرات سوق العمل: حيث يتأثر الحراك الاجتماعى بفترات البطالة التى يعانى منها الفرد، وبفرص العمل المتاحة فى السوق، ونظام الأجور السائد، والقيود التى يضعها السوق على توزيع الوظائف مثل تلك التى يضعها على دخول المرأة إلى بعض الوظائف.
  • الصحة والرفاه الاجتماعى: فسوء الأحوال الصحية، وتردى الظروف البيئية قد يكون عاملاً مثبطًا لمؤثرات التعليم على الحراك.
  • التأثيرات البيئية المباشرة: مثل انعزال البيئة وفقرها، ونقص الخدمات الاجتماعية فيها، والحرمان النسبى لسكانها، كل هذه عوامل تجعل من السكن فى بيئات معينة مشكلة تتصل بإمكانية الصعود إلى أعلى.
  • الخلفية الاجتماعية: وما يرتبط بها من ترسيخ لأفكار التمايز الطبقي، فالتعليم يعكس بلا شك التركيب الاجتماعي لأي مجتمع، ويساعد على استمرار هذه التركيبة والمحافظة عليها وتدعيمها إيديولوجيًّا، والمدرسة في المجتمع الطبقي ما هي إلا أداة في يد الطبقة المسيطرة في المجتمع، وقد صممت المدارس ومؤسسات التعليم في المجتمعات الرأسمالية الحديثة والمعاصرة، بحيث تخدم المصالح السياسية والاقتصادية للطبقة الرأسمالية، وذلك من خلال ما تقدمه هذه المدارس من تشكيل لشخصية المواطن ووعيه تشكيلاً يتفق مع نمط الحياة السائد في تلك المجتمعات بحيث يشعر ويربى على أن التمايز الطبقي أمر طبيعي يحدث في كل مجتمع(23).
  • التحولات السياسية: ترشدناالتجارب السياسية المختلفة إلى أن أي تغيير سياسي بصوره المختلفة، الثورية منها أو الديموقراطية، ينبغي أن يتوافر له ثلاث عوامل متكاملة هي(24):
  • وجود مناخ سياسي اجتماعي محتقن يدفع إلى التغيير ويلح عليه.
  • قوى سياسية راغبة في التغيير وقادرة عليه سواء في صورة حزب سياسي أو جبهة أحزاب وطنية.
  • برنامج وطني أو ثوري يحوز القبول العام ويشكل أساسًا لتكتل اجتماعي وسياسي واسع النطاق.

ويرى علماء الاجتماع أن التحول السياسي يرتبط بفترات الاضطراب الاجتماعي مثل الحرب والثورة وحركة الإصلاح السياسي والاجتماعي، ففي فترات الحرب يحدث حراك اجتماعي صاعدًا أو هابطًا لبعض الأفراد. كما أن الاتجاه نحو الإصلاح الديموقراطي وترسيخ دعائم الحرية يساعد على تحقيق تقدم الحياة الاجتماعية بحيث يصبح الارتقاء والحراك الاجتماعي والانتقال من طبقة الى أخرى أكثر يسرًا، إذ تتميز المجتمعات الديموقراطية بشدة حراكها الصاعد. كما تعد الثورات عاملاً فعالاً في الحراك الاجتماعي لأنها تضع نظامًا سياسيًّا محل غيره، وتأتي بأناس كانوا من الدرجه الثانية أو الثالثة وتضعهم على رؤوس الأمم فيصبحون من قادتها وزعمائها، كما تعمل الحروب والانتفاضات الاجتماعية على سرعة الحراك؛ حيث تساعد هذه العوامل على ظهور قيادات وطنية جديدة لتحل محل القيادات التقليدية القديمة وما يرتبط بذلك من حدوث حراك اجتماعي(25).

  • الاختلافات الثقافية: أما الاختلافات الثقافية بين المجتمعات وما يرتبط بها من تفاوت في الحراك الاجتماعي فقد درسها كريموسكي (Krymowski) والتي قارن فيها عملية اكتساب المكانة المهنية في بولندا والولايات المتحدة، وألمانيا الغربية، وقد أظهرت أن التعليم كان أكثر أهمية في تحديد المهنة في بولندا وألمانيا الغربية منه في الولايات المتحدة(26).
  • الإعلام: تعمل وسائل الإعلام على توسيع الآفاق، وخلق الشخصية القادرة على فهم الغير، وتبني نظرة جديدة متفحصة، كما تعمل على تحطيم قيود المسافة والعزلة، وتنقل الناس من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، ويؤدي توسيع الآفاق إلى تنمية صفة التفتح السمح والاستثمار بالغير لدى الأفراد وهو ما يطلق عليه بعض الباحثين (التقمص الوجدانى) الذى يعطي الفرد القدرة على أن يرى نفسه مكان الآخرين؛ مما ييسر عملية المشاركة والتبادل التي تعتبر أساس عملية التنمية والتغير الاجتماعى(27).
  • الاتصال الثقافى: تعتبر سهولة اتصال المجتمع بغيره من المجتمعات؛ نتيجة للتقدم فى وسائل الاتصال الفكرية المختلفة من صحافة وإذاعة وتلفاز وإنترنت، من العوامل التى تؤثر على سرعة التغير الاجتماعى لأثرها الواضح فى نقل الأفكار واحتكاك الثقافات وتبادل الأفكار بين الأفراد. فالاحتكاك والاتصال يترتب عليه تغير فى أساليب الحياة، وتغير فى الاتجاهات، وتنمية لبعض العادات، وتغير فيما يرمي إليه الإنسان من أهداف، وارتفاع فى مستوى طموحات الأفراد، وتغير فى النمو العقلي وفى طريقة التفكير، مما لا يمكن أن يغفل أثره وخاصة فى المجتمعات الحديثة التى تتميز بالتقدم السريع فى وسائل الاتصال(28).
  • الهجرة: تعتبر الهجرة عامل على درجة مرتفعة من التأثير المباشر على ظاهرة الحراك الاجتماعي، وذلك نظرًا لكثرة حدوثها في المجتمع المعاصر، وأهمية دوافعها التي تتمثل في سعى الأفراد الحثيث لتحسين ظروفهم اجتماعيًّا، واقتصاديًّا، وثقافيًّا، من حيث فرص التعليم والعمل ومستوى الدخل الأعلى والرقى الاقتصادي والاجتماعي(29).
  • الحراك المهني: ويقصد به تغيير الفرد لمهنة أسرته، وتبديل الأبناء لمهن آبائهم نتيجة لازدياد التخصص المهني، ويساعد الحراك المهني على تحرك الأفراد اجتماعيًّا واقتصاديًّا عن مكانة أسرهم الاجتماعية والاقتصادية(30).

وقد حدد شناور (Schnore, 1961 pp 407 – 423) عددًا من العوامل التي تؤثر على الحراك المهني وهي كالتالي(31):

  • العوامل الديموغرافية (Demographic Factors): وهذه تشمل الإحلال الفارقي (Differential Replacement) من خلال الطبقة الاجتماعية والفروق في معدلات الخصوبة والوفيات. وكذلك من خلال الاختيار الطبقي لصافي المهاجرين والنازحين، والحراك المتبادل بين الأفراد (الهجرات القسرية والطوعية الداخلية والخارجية).
  • العوامل التكنولوجية (Technological Factors): وتشمل الاختراعات التكنولوجية المتعلقة بالإنتاج، وكذلك بالتوزيع وخاصة المواصلات (سهولة المواصلات، وتوفر شروط الاستقرار الوظيفي في أماكن العمل مثل السكن).
  • العوامل التنظيمية  Organizational Factors: وتشمل عدة عوامل مثل التغير في نمط الصناعة، والإنتاج، وإيجاد صناعات جديدة، وزيادة حجم المنظمات الاقتصادية، وإعادة توزيع الثروة الناتجة عن الصناعات الجديدة، والزيادة في الإنتاجية، والسياسات الجديدة.
  • عوامل التغيرات البيئية (Environmental Changes Factors): وتشمل إيجاد عناصر جديدة في البيئة الفيزيقية ذات علاقة بالتغيرات التكنولوجية، وإيجاد مصادر طبيعية جديدة من خلال الاكتشاف، والتغيرات التنظيمية، واضمحلال بعض المصادر غير القابلة للإحلال.

سادسًا: نظرة على الحراك الاجتماعي في مصر:

في الثالث والعشرين من يوليو عام (1952) نجحت مجموعة من الضباط المنتمين لتنظيم الضباط الأحرار في الإطاحة بالملك فاروق، وفي بيانهم الأول إلى الشعب أعلن الضباط أن حركتهم تهدف إلى تحقيق ستة مبادئ هي: القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة، والقضاء على الإقطاع، والقضاء على الرأسمالية الاحتكارية، وإقامة العدالة الاجتماعية، وبناء جيش وطني قوي، وتأسيس نظام ديمقراطي.

وقد تمكن الضباط – من خلال عدد من الإجراءات – من إضعاف القوة السياسية للطبقة المسيطرة وتدعيم قوتهم باعتبارهم الجماعة الحاكمة الوحيدة القائمة على الشرعية في البلاد. وخلال السنوات الأربع الأولى من الحكم العسكري تم إلغاء كل الأحزاب السياسية، وصدر قانون الإصلاح الزراعي، وتم تأميم بعض الشركات والمؤسسات الأجنبية والمحلية(32).

لكنه وعقب ثورة (1952)، شهدت تجربة الثورة المبكرة أناسًا لا يؤمنون إيمانًا مطلقًا بقيمة المساواة، فشاركوا الثوريين في ترديدها، ولكنهم لم يطبقوها على أنفسهم ولا على ذويهم من الأقارب والأصدقاء؛ ولم يرعوا قيمة المساواة والعدالة حق رعايتها. ولعل هؤلاء هم الذين أفسدوا التجربة الناصرية، ووصلوا بها في  نهاية الستينيات إلى هزيمة جسَّدت سقوط التجربة. فالاشتراكية لا يصنعها إلا اشتراكيون يؤمنون بالفكرة ويرعونها حق رعايتها، وهكذا الحال في الديمقراطية وفي أي نظام سياسي آخر(33).

وكانت الثورة قد حقَّقت مكاسب كثيرة، لعل أهمها ترسيخ مبدأ العمومية Universalism وهو مبدأ اجتماعي يعبِّر عن قيمة المساواة بين المواطنين، بحيث تطبق عليهم قواعد عامة، دون تمييز بينهم إلا على أساس الإنجاز والقدرة على الأداء. ولقد دفع هذا المبدأ بعدد كبير من أبناء الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى – خاصة ممن حصلوا على التعليم الذي أتاحته الثورة على نطاق واسع – إلى الارتفاع عبر السلّم الطبقي من خلال الوظائف التي تقلَّدوها أو المهن التي اكتسبوها. لكن هذا المبدأ العام لم يستمر، ووجدنا أن التغيرات التي اجتاحت المجتمع بدءًا من سبعينيات القرن العشرين قد أطاحت بهذا المبدأ، مما هدد قيم المساواة والعدالة. فرغم أن مبدأ العمومية مازال منصوصًا عليه في دستور (١٩٧١) وفى منظومة القوانين إلا أن الممارسات العملية تهدر هذا المبدأ، حيث نجد أن أولئك الذين صعدوا بسبب سيادة هذا المبدأ – في الستينيات وبداية السبعينيات هم أنفسهم الذين يخونونه؛ إذ يصرون على تحقيق مزايا لأنفسهم ولأبنائهم وبناتهم، من خلال ما يمتلكونه من نفوذ وسلطة. إن خيانة هذا المبدأ يُعد معولاً لهدم العدالة الاجتماعية، هذا إذا نظرنا إلى العدالة بمفهومها الثقافي العام وليس بمعناها الاقتصادي الضيق(34).

ولقد وسَّعت سياسات التكيف الهيكلي – مع بدايات تسعينيات القرن الماضي – والتحول إلى اقتصاد السوق الهوة بين الفقراء والأغنياء وأحدثت تحولات كبيرة في بنية الطبقة الوسطى حيث تحولت أعداد كبيرة منها إلى محدودي دخل، يعانون صنوفًا من الحرمان، ورغم أن الدولة لم تتخل عن مسؤوليتها – في دعم السلع والطاقة – إلا أن الأساليب التي تُطبَّق بها سياسات الدعم لم تحل مشكلات الفقراء أو تقلِّل الحرمان. فلقد هلك الدعم بين بيروقراطية عقيمة، وتجار جشعين، وفئات غير مستحقة للدعم لم يجرؤ أحد منهم حتى الآن ليعلن أنه ليس بحاجة إليه (بما في ذلك أصحاب المصانع الكبيرة الذين يستفيدون من دعم الطاقة). وضاعت جلّ أموال العديد من الجهات في بنايات ضخمة ذات واجهات زجاجية وغير زجاجية، تمتلئ بالموظفين من ذوي الياقات البيضاء، الذين يحصلون على رواتب عالية، ويجيدون اللغات الأجنبية ولكنهم لا يجيدون الشعور بهموم الفقراء ومشكلاتهم، وتأسيسًا على ذلك لم تعمل تلك الجهات على تخفيف اللامساواة الاجتماعية، بل إنها خلقت أشكالاً جديدة للتمايز الاجتماعي داخل البناء الوظيفي والمهني في مصر. وبذلك تم امتصاص قدر كبير من أموال تلك الجهات في بيروقراطية جديدة لصالح أبناء وأقارب المسؤولين(35).

وفي دراسة باهر شوقى وسامر سليمان بعنوان “تشريح اقتصادي اجتماعي للطبقة الوسطى، أحوال مصرية”، العدد الأول – صيف (1998)(36):

يتتبع الباحثان علاقة الدولة المصرية بالطبقة الوسطي منذ الخمسينيات حتى التسعينيات، وذلك انطلاقًا من أن الدولة المصرية هي خالقة الطبقة الوسطي من خلال مجانية التعليم وسياسة التوظيف الحكومي، وفي مقابل ذلك تراجع وزن أو تمثيل التجار والحرفيين وأعضاء المؤسسات الدينية. وإنها هي التي أدت في الوقت نفسه بسياساتها الاقتصادية الجديدة إلى تدهور أوضاعها.

ومع انقضاء عقد الستينيات بدأت السياسات الخالقة للطبقة الوسطي تتراجع خاصة بعد التبني الرسمي لسياسة الانفتاح الاقتصادي، وعلى الرغم من أن انسحاب الدولة بدأ منذ عقد السبعينيات إلا أنه لم يكن دفعة واحدة، ولكنه اتسم بالتدرجية. كما أدى التزام الدولة ببرامج الإصلاح الاقتصادى بداية التسعينيات إلى تآكل الوضع الاجتماعى والاقتصادى لعديد من فئات الطبقة الوسطي، ويدلل الباحثان على ذلك بثلاث مؤشرات وهي معدلات التوظيف، والبطالة خاصة بين خريجي الجامعات، وانخفاض الأجور الحقيقية نتيجة التضخم، وأخيرًا أزمة الإسكان والتي لم يحلها قانون الإيجارات الجديدة للمساكن.

وخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، حدث تغير في خصائص التركيب الطبقي  المصري، فقد تزايدت نسبة أصحاب المهن الفنية والعلمية، وزيادة نسبة الإداريين ومديري الأعمال، والمشتغلين بالأعمال الكتابية، وظهور شريحة وسطى من الباحثين المستقلين، والمترجمين، والمشتغلين بالدعاية والإعلان، ومصممي برامج الحاسب الآلي، ومندوبي المبيعات لدى الشركات العالمية. ولكن مع هذه الزيادة، تشهد الطبقة الوسطى تناقضًا داخليًّا، بسبب تمايز فرص ونوعية وأجر العمل بين العاملين في القطاع العام، والقطاع الخاص، والقطاع غير الرسمي. وتفاقمت هذه التناقضات مع فشل وتخبط المشروع التنموي، وتحول الحراك الاجتماعي إلى حراك زائف يعتمد على التكسب من الفساد، واستخدام النفوذ السياسي. في ظل هيمنة الدولة والحزب الوطني الحاكم على مؤسسات المجتمع المدني، وخاصة النقابات المهنية، والأحزاب. وفي دراسته عن اتجاهات التغير في الطبقة الوسطى (2009)، يرصد أحمد حسين حسن، أثر الأوضاع الاقتصادية خلال الفترة بين عامي (1996-2006) على ارتفاع حجم الطبقة العاملة مقابل انكماش الطبقة الوسطى وخاصة الشريحة البيروقراطية، وشريحة البرجوازية الصغيرة التقليدية، مع زيادة محدودة في  حجم الشريحة البرجوازية الحديثة المعولمة(37).

سابعًا: معوقات الحراك الاجتماعي:

بالرغم من الأهمية الكبيرة لعملية الحراك الاجتماعي كسبيل لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية بقطاعاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هناك العديد من العوامل التي تعوق تقدمها في المجتمعات والتي يتمثل أهمها فيما يلي:

  1. المصالح الذاتية: وذلك إما بالنسبة للنظام الاجتماعي أو السياسي القائم، ولأعضائه، والمستفيدين منه، والمؤيدين له، أو لبعض العاملين على التغيير من خارجه(38).
  2. الاستبداد السياسي: ذلك أن السلطة التي تسعى لتقييد النظام الاجتماعي بتوجهاتها السياسية إنما تسعى لتقييد حركة مكوناتها البشرية، أي تثبيط الحراك الاجتماعي وتوجيهه وفقًا لأجندتها الذاتية، وبما أنه حراكًا ديناميكيًّا غير محدد الفعل والتوجه، فليس من السهولة تقييده لكن قد تشله قيود ومحددات السلطة، غير أن هذه الآلية القسرية لشل الحراك في النظام الاجتماعي لا تدوم طويلاً لأن لعناصر ومكونات النظام طاقة تحتاج إلى تصريف عبر الحراك الاجتماعي وإلا فإنها تصبح طاقة كامنة تبحث عن متنفس لها، فإن حجبت متنفسات النظام الاجتماعي يصبح عرضة للانفجار عبر ثورات وعصيان مدني ضد السلطة المستبدة، وبالتالي يؤدي لخلخلة أسس النظام لتعم الفوضى والخراب في المجتمع؛ فتفرض كائنات قاع المجتمع سطوتها على الواقع الجديد؛ ليرتد المجتمع نحو غياهب التاريخ وتضيع كافة الجهود التي بذلت عبر التاريخ للارتقاء بمدنية المجتمع(39).
  3.  العادات والتقاليد وأشكال السلوك المتأصلة: تصبح أحيانًا عوامل تعيق الحراك والتغيير. وإذا كان الجديد مرغوبًا أحيانًا، فإنه في بعض الأحيان يتناقض مع الحاضر والماضي المألوفين. والناس التقليديون يخشون التجديد ويطمئنون للقديم المعلوم والحاضر المألوف، وهذا يعني أن هناك حالة من الانشطار قد تطبع الواقع(40).
  4. نتائج الهجرة: تخطر المناطق المهاجر إليها باستقبال العناصر الشابة القادرة على العمل والتي تتميز بدرجة عالية من التعليم، والتدريب والخبرة في مجالات المهن المختلفة وتسمى هذه الظاهرة باستنزاف العقول Brain Drain وبالتالي تفقد المناطق الطاردة وهي عادة المتخلفة (القطاعات الرعوية أو الريفية في المجتمع في حالة الهجرة الداخلية – والبلاد النامية في حالة الهجرة الخارجية) ثمرة غرسها باستمرار، وتعاني من نقص العمالة المهنية الماهرة(41).
  5. بطء الاختراعات التكنولوجية: تعد العوامل التكنولوجية من أهم عوامل الإنتاج التي يستعملها الإنسان للتطور والتقدم، فعدم الاهتمام بالتكنولوجيا والاختراعات من شأنه أن يحدث نوعًا من الإعاقة للتغير الاجتماعي والاقتصادي الشامل. ولقد حدد وليم أوجبرن William Ogburn أربعة عناصر حددت الاختراعات والتي تتمثل في: الحاجة إلى الاختراع، ووجود أساس ثقافي ملائم، وتوافر قدرات عقلية، وعدم وقوف العادات والتقاليد أمام الاختراع(42).
  6. عدم تجانس البناء الاجتماعي: تؤثر مظاهر الاضطرابات والتفكك داخل المجتمعات والاختلافات السلالية والطبيعية والدينية والسياسية على حدوث كثير من العقبات أمام الرغبة في التحديث أو التطوير أو التعاون مع عمليات التنمية أو المشاركة وما يرتبط بها من حراك اجتماعي(43).

(1) محمود عودة، أسس علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، 1995، ص 220.

(2) محمد علي جمعة، دور الإعلام في التغيير والحراك الاجتماعي العربي: سورية نموذجًا، اتحاد الكتاب العرب، سوريا – دمشق، 2012، ص.ص 22، 23.

Also available at: http://awu.sy/index.php?page=show_det&category_id=71&id=1306&lang=ar

(3) مولود زايد الطبيب، دور الحراك الاجتماعي في الحصول على المكانة الاجتماعية، وعلاقة ذلك ببنية ونظام المجتمع، جامعة الزاوية، الزاوية – ليبيا، بدون سنة نشر، ص.ص 8، 9.

Also available at: http://ejtema3e.com/books/my-books.html?download=15:%20e-book-9.pdf

(4) محمد علي جمعة، مرجع سابق، ص.ص 22، 23.

(5) محمد الجوهرى، المدخل إلى علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 45.

(6) نهاد أحمد مكرم، الحراك الاجتماعي في ظل الربيع العربي: مصر نموذجًا، مركز أسبار لدراسات وبحوث الإعلام، مايو 2013.

Also available at: http://www.asbar.com/ar/monthly-issues//1264.article.htm

(7) محمد علي جمعة، مرجع سابق، ص 25.

(8) Michael Brown, Higher Education as a tool of social mobility, CentreForum, London, 2014, p 8.

(9) أحمد زايد، التعليم والحراك الاجتماعى فى مصر، مرجع سابق، ص 1.

(10) المرجع السابق، ص 2.

(11) محمد عاطف غيث، التغير الاجتماعي والتخطيط، دار المعارف، الإسكندرية، 1966، ص 23.

(12) أحمد النكلاوي، مدخل إلى علم اجتماع الاتصال، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2001، ص.ص 150، 151.

(13) نجلاء منير حامد، اتجاهات التنمية في التسعينيات، دار المصطفى للطباعة والنشر، طنطا، 2005، ص 279.

(14) Michael Brown, Higher Education as a tool of social mobility, op.cit, p 8.

(15) مصطفى منير محمود وطارق محمود يسري، سياسات التنمية المستدامة للمجتمعات الريفية الفقيرة، مشروع مبادرة التوعية بالأهداف الإنمائية للألفية، جامعة القاهرة، كلية التخطيط العمراني والإقليمي، قطاع خدمة المجتمع وتنمية البيئة، مارس ٢٠١٢، ص13.

(16) أحمد بشارة، التنمية المستدامة.. مفهومها.. أبعادها.. مؤشراتها، موقع مصر العربية، 29 أكتوبر 2015.

Also available at: http://www.masralarabia.com/اقتصاد/776191-التنمية-المستدامة-مفهومها-أبعادها-مؤشراتها

(17) Michael Brown, Higher Education as a tool of social mobility, op.cit, p 8.

(18) إسماعيل علي سعد، المجتمع والسياسة: دراسات في النظريات والمذاهب والنظم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1999، ص 189.

(19) أحمد سليمان أبوزيد، علم الاجتماع السياسي: الأسس والقضايا من منظور نقدي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2003، ص 240.

(3) Michael Brown, Higher Education as a tool of social mobility, op.cit, p 8.

(20) عبد الهادي محمد والي، علم الاجتماع الديني، دار المصطفى للطباعة والنشر، طنطا، 2003، ص 291.

(21) Declan Gaffney & Ben Baumberg, Dismantling the Barriers to Social Mobility, Touchstone Extra publications, 2014, p 13.

(22) أحمد زايد، التعليم والحراك الاجتماعى فى مصر، مرجع سابق، ص 5.

(23) شبل بدران وحسن البيلاوي، علم اجتماع التربية المعاصر، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1997، ص 243.

(24) إيمان محمد عز العرب، واقع التحول الديموقراطي والإصلاح السياسي والدستوري في مصر، جامعة طنطا، كلية الآداب، قسم الاجتماع، بحث مقدم للندوة السنوية الثانية لقسم علم الاجتماع بعنوان (الإصلاح السياسي والتطور الديموقراطي في مصر)، 2006، ص 146.

(25) ريم التويجري، الحراك الاجتماعي، منتدى الدكتور سعيد عيد العنزي، 18 أكتوبر 2010.

Also available at: http://dr-saud-a.com/vb/showthread.php?t=29197

(26) ذياب البداينة وفايز المجالي، الحراك الاجتماعي بين الأجيال والتفضيل المهني لدى الأبناء، الكرك، مؤتة – جامعة مؤتة، مجلة البحوث التربوية بجامعة قطر، العدد التاسع، السنة الخامسة، يناير 1996، ص 214.

(27) عاطف عدلي العبد ونهى عاطف العبد، الإعلام التنموي والتغير الاجتماعي: الأسس النظرية والنماذج التطبيقية، مرجع سابق، ص 68.

(28) سيف الإسلام على مطر، التغير الاجتماعي: دراسة تحليلية من منظور التربية الإسلامية، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، 1988، ص 17.

(29) محمد حمدي السعيد، الحراك الاجتماعي والتحديات الأمنية، مركز البحوث الأمنية – الأكاديمية الملكية للشرطة (مركز الإعلام الأمني)، مملكة البحرين، 2012، ص 3.

Also available at: http://www.policemc.gov.bh/reports/2012/March/25-3-2012/634682915656293733.pdf

(30) مولود زايد الطبيب، مرجع سابق، ص.ص 8، 9.

(31) ذياب البداينة وفايز المجالي، مرجع سابق، ص.ص 210 – 212.

(32) محمد أبو العينين، مقدمة في تاريخ مصر الاجتماعي، بدون دار نشر، 2001، ص 303.

(33) أحمد زايد، دولة العدل الاجتماعى مركزية القيمة ولا مركزية الحكم، مجلس الوزراء (مركزالمعلومات ودعم اتخاذ القرار)، أوراق للحوار إصدار دوري – الإصدار الأول: أبريل ٢٠١١،  ص4.

Also available at: http://www.idsc.gov.eg/IDSC/Upload/Publication/FullFile_A/205/Social-Justice1.pdf

(34) أحمد زايد، دولة العدل الاجتماعى مركزية القيمة ولا مركزية الحكم، مرجع سابق، ص 5.

(35) أحمد زايد، دولة العدل الاجتماعى مركزية القيمة ولا مركزية الحكم، مرجع سابق، ص 5.

(36) هويدا عدلي رومان، الطبقة الوسطى في مصر: دراسة توثيقية تحليلة، برنامج تدعيم المشاركة فى بحوث التنمية، القاهرة، 2001، ص 27.

Also available at: http://www1.aucegypt.edu/src/pdr/Research_Briefs/Middle_Class.pdf

(37) أحمد موسى بدوي، الخريطة الطبقية ومسارات العدالة الاجتماعية في مصر، المركز العربي للبحوث والدراسات، 14 فبراير 2016.

Also available at: http://www.acrseg.org/39918

(38) محمد علي جمعة، مرجع سابق، ص 24.

(39) مولود زايد الطبيب، مرجع سابق، ص 4.

(40) محمد علي جمعة، مرجع سابق، ص 24.

(41) أحمد رأفت عبد الجواد، مبادئ علم الاجتماع، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة، 1982، ص 75.

(42) عبد الهادي محمد والي، علم الاجتماع الديني، مرجع سابق، ص.ص 300، 301.

(43) المرجع السابق، ص 301.