تتطلب عملية التنمية تخطيطًا منظمًا يقوم على تبني المنهج العلمي في البحث؛ حتى يمكن رسم خطة قابلة للتنفيذ في حدود الإمكانيات والموارد القابلة…

تتطلب عملية التنمية تخطيطًا منظمًا يقوم على تبني المنهج العلمي في البحث؛ حتى يمكن رسم خطة قابلة للتنفيذ في حدود الإمكانيات والموارد القابلة للاستثمار في ضوء الوضع الراهن من جهة، والسياق التاريخي من جهة أخرى.

وسنحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على طبيعة عملية التخطيط للتنمية من خلال تناول مفهوم التخطيط والتخطيط الاستراتيجي القومي، ثم ننتقل إلى توضيح أسس ومصادر التخطيط الاستراتيجي، كذلك يتم تناول مراحل التخطيط التشاركي مع المواطنين وكيفية تفعيل دور المواطن في عملية التخطيط وجهود التنمية.

كذلك نتناول أنواع التخطيط للتنمية، ثم في النهاية بعض القضايا التي تؤثر في عملية التخطيط للتنمية ولاسيما تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية والتغير الاجتماعي على مسارات التخطيط التنموي.

أولاً: مفهوم التخطيط:

التخطيط هو نوع من العمل التعاوني الشامل يقوم على المنهج العلمي في البحث بقصد رسم خطة قابلة للتنفيذ في حدود الإمكانيات والموارد القابلة للاستثمار.

كما يعرف بأنه “دراسة وتحليل حقائق الوضع السابق والراهن، ومن ثم استخلاص النتائج واستشراف المستقبل”.(1)

ومن ثم ينصرف كلا المفهومين إلى العناصر التالية(2):

الأول: التنبؤ بما يكون عليه المستقبل القريب.

الثاني: التعامل مع حقائق الموقف السابق والراهن.

الثالث:  التعامل غالبًا مع البيئة المحلية.

ثانيًا: التخطيط الاستراتيجي القومي:

دراسة علمية متكاملة ودقيقة، تخضع للفكر والحسابات والتوقعات المبنية على أسس علمية، تستفيد من وسائل التقنية الحديثة، تستند على الخبرة الميدانية، تتناول (موضوعًا/مشكلة) بغرض تحديد حدودها وأبعادها واحتمالاتها، والبحث عن أنسب حلول موضوعية لها، واعداد برنامج مرحلي وموقوت لحل هذه المشكلة والخروج بأفضل النتائج لتحقيق استراتيجية الدولة وأهدافها وغايتها القومية، وتسير خلال مراحل متتالية، أي أنها “مباراة فكرية وعقلية وعملية بغرض الخروج بأفضل النتائج لتحقيق الأهداف القومية”.

كما يُعرف التخطيط الاستراتيجي من وجهة نظر الغرب على أنه “فن وعلم تطوير استخدام قوى الدولة الشاملة في أثناء السلم والحرب لتحقيق الأهداف والغايات القومية، أما من وجهة النظر الشرقية فيُعرف بأنه الفن المنطقي لاستخدام القوى لتحقيق الإرادات”.

ويُعرف د. علي الدين هلال التخطيط الاستراتيجي القومي بأنه “فن وعلم يُبنى على حشد واستخدام القوى الشاملة لتحقيق الأهداف والغايات القومية للدولة التي تحددها القيادة السياسية، ويؤثر على التخطيط الشامل للدولة سياستها الخارجية والداخلية في تحقيق أهدافها وغايتها القومية، وموقعها الجغرافي، وقدراتها وإمكاناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، ومدى تقدمها العلمي والتكنولوجي، وأخيرًا نشاطها السياسي وحرية الإرادة الوطنية”(3).

ثالثًا: أسس ومصادر التخطيط الاستراتيجي:

يستمد التخطيط للاستراتيجية القومية جوهره من مجموعة مصادر تكون أساسًا ومرشدًا للمخطط الاستراتيجي، وتدعم جهوده لتنفيذ مهامه، وأهم هذه الأسس والمصادر ما يلي(4):

  1. عقيدة الدولة وأهدافها وغاياتها القومية وسياستها العامة وثوابتها القومية.
  2. الدستور الذي يحدد الإطار العام والهيكل الأساسي لسياسة الدولة.
  3. برنامج الحزب الحاكم وسياسة الحكومة التي تُعبر عنها برامجها المطروحة أمام البرلمان.
  4. خطابات القيادة السياسية في المناسبات المختلفة وتصريحات المسئولين.
  5. السياسات الخاصة المتعلقة بتأمين الدولة سياسيًّا ودفاعيًّا.
  6. البيانات الرسمية التي تصدرها الوزارات السيادية تجاه قضايا معينة.
  7. رأي البرلمان وتوصياته وتوجيهات القيادات الأعلى مستوى.
  8. المعاهدات والاتفاقات والارتباطات الإقليمية والدولية، ومقتضيات القانون والأعراف الدولية.
  9. الأخطار والتهديدات المحتملة، ومدى قدرة الموارد والإمكانيات المتاحة لمواجهتها.
  10. موارد الدولة وامكاناتها المتاحة، ومدى توفر الخبرات ومنظومة العمل داخل قطاعات الدولة.
  11. المعلومات وقواعد البيانات المتاحة والمطلوبة لعملية التخطيط في المجالات المختلفة، ثم الوقت المتيسر والمتاح للتخطيط.
  • المبادئ التي يقوم عليها التخطيط للتنمية(5):

هذه المبادئ يمكن ذكرها في الآتي:

  • الواقعية:

هي وضع الخطط على أسس عملية تنهض على تقدير الإمكانيات والموارد القائمة في المجتمع.

  • الشمول:

يقصد أن تكون الخطط شاملة لمختلف القطاعات الوظيفية  القائمة في المجتمع.

  • التكامل:

يتم عن طريق الترابط بين المستويات المختلفة لمشروعات وبرامج الخطة.

  • المرونة:

من حيث اللامركزية وتسهيل الإجراءات.

رابعًا: مراحل التخطيط التشاركي مع المواطنين(6):

  1. مرحلة إعداد ووضع الخطة وتشمل:
  2. تأهيل المجتمع لفكرة المشاركة وتشكيل فريق عمل يتكون من المسئولين والخبراء وأفراد المجتمع المحلي وتشكيل اللجان الفنية.
  3. الإعلان عن عملية التخطيط التشاركي وعقد الندوات وفتح باب الترشيح لمن يرغب من المجتمع المحلي بالمشاركة في اللجان المختلفة.
  4. التدريب من خلال إعداد برنامج تدريبي لجميع المشاركين في العملية التخطيطية.
  5. تشخيص الوضع الحالي وتحديد الاحتياجات والمشكلات داخل المجتمع المحلي.
  6. إعداد خطة للعمل من خلال فريق التخطيط واللجان.
  7. عقد ورش العمل للمناقشات واختيار الأولويات.
  8. مرحلة التنفيذية للخطة والتي تشمل:
  9. بناء الهيكل التنظيمي وتوزيع المسئوليات.
  10. إعداد الموازنة العامة للمشروعات.
  11. وضع إطار زمني للموازنة.
  12. تحديد الإجراءات التنفيذية وفق الموارد والزمن المتاح.
  13. الوصول إلى الهدف والتغلب على المشاكل وزيادة كفاءة وفاعلية جميع المشاركين واللجان الفنية.
  14. مرحلة المتابعة والتقويم والتي تشمل:
  15. قيام اللجان بالاطلاع وعقد الاجتماعات للمتابعة بشكل دوري.
  16. مناقشة التقييم وتحديد نقاط القوة والضعف.
  17. التدريب على الأساليب الحديثة في التقويم وحساب العائد والمردود.
  18. تحديث الخطط وفق التغذية العكسية (الآراء الناقدة) لعملية التقويم.

ويتضح مما سبق أن عملية التخطيط للتنمية أيا كانت صورتها اجتماعية أو اقتصادية يجب أن تعتمد على عنصرين أساسيين هما.

  • مساهمة الأهالي بأنشطتهم الجماعية والفردية في الجهود التي تبذل لتحسين مستوى معيشتهم  بصورة إيجابية.
  • تقديم الخدمات الفنية والمادية من الحكومة أو الهيئات الدولية أو الأهلية لتشجيع هذه الجهود التخطيطية وإنجاحها.

خامسًا: أنواع التخطيط للتنمية:

توجد تصنيفات متعددة للتخطيط نعرض لها فيما يلي(7):

  • من حيث الأهداف:

يوجد نوعين من التخطيط أحدهما بنائي والآخر وظيفي.

التخطيط البنائي: هو مجموعة القرارات والإجراءات التي تتخذ بقصد إحداث تغيرات أساسية في البناء الاجتماعي. ولا يقتصر هذا النوع من التخطيط على مجرد الإصلاح والترميم في البنيان القائم وإنما يتعدى ذلك التغير الجذري في بناء المجتمع وظواهره ونظمه.

التخطيط الوظيفي: فيختلف عن السابق حيث أنه يقوم بإحداث التغيير في الوظائف التي يؤديها النظام.

  • من حيث المجالات:

يقسم التخطيط إلى نوعين الأول جزئي والثاني أشمل؛ فالنوع الأول هو التخطيط الذي يتناول جزءًا أو مجالاً أو قطاعًا واحدًا من قطاعات المجتمع أما النوع الثاني فهو الذي يتم على مستوى المجتمع بكل أنشطته وقطاعاته؛ إذ يكون التخطيط شاملاً لكل أهداف المجتمع وموارده.

  • من حيث المستوى:

يقسم التخطيط إلى نوعين رئيسيين هما التخطيط على المستوى القومي والتخطيط على المستوى المحلي.

والنوع الأول هو وضع الخطط القومية على مستوى الدولة كلها بحيث تنصب على المجتمع كله باعتباره وحدة متكاملة.

أما النوع الثاني فهو يتم على مستوى المجتمعات المحلية ويستهدف النهوض بتلك المجتمعات.

سادسًا: بعض القضايا التي تؤثر في عملية التخطيط للتنمية:

  • الثقافة والتنمية:

إن التنمية بمفهومها الحالي تهمل البيئة في جانبها الطبيعي والثقافي والتحليل المتأني للعلاقة بين الثقافة والتنمية يوضح أن القيم الثقافية تعتبر الأساس الضروري للتنمية الاجتماعية المتواصلة، وبصفة عامة فإن الأمن والاستقرار والمقدرة الإنتاجية للنمو والاستمرارية لأي مجتمع يتحدد بقيمة الثقافة.

  • التنمية والاستقرار:

إن الفقر والبطالة يرتبطان ارتباطًا شديدًا بمعظم حالات عدم الاستقرار الاجتماعي مثل الحروب القبلية والحروب الأهلية وانتشار الجريمة. إن الذين يحرمون من مزايا المجتمع الحديث يرفضون أسس عدالته ويتجاهلون قوانينه وتنمو لديهم عوامل عدم الاستقرار التي قد تهدد الطبقات الغنية بل المجتمع كله. وعلى ذلك فإنه لا يمكن ضمان الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي دون وجود تنمية حقيقية مصحوبة بخلق فرص عمل تكفي لاستيعاب الطاقات البشرية المعطلة أو التي تدخل سوق العمل لأول مرة.

  • النمو والتنمية:

يختلف النمو عن التنمية باعتباره حراكًا لا شعوريًّا بالنسبة للمجتمع، قد يشعر به جزئيًّا لا كليًّا، ويحدث النمو تلقائيًا في المجتمع وفي قطاعاته وأنشطته بدون توازن أو تكامل أو ارتباط بأهداف عامة قومية وهنا تحدث ظاهرة التخلف الثقافي وهي تؤدي إلى ظاهرة أخرى ألا وهي التخلف التنفيذي للمشروعات القومية Achievement lag لذا فالتنمية تعني الشمول.

  • التنمية والتغير الاجتماعي:

يمكن تعريف التغير بأنه كل تحول يحدث في النظم الاجتماعية والأجهزة الاجتماعية من الناحية البنائية والوظيفية خلال فترة زمنية محددة. وتعتبر التنمية تغيرًا اجتماعيًّا مقصودًا يتم الإعداد له بشكل مسبق.

تتعدد مفهومات التغير الاجتماعي، حيث يعرف على أنه “كل تحول يحدث في النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية من الناحية المورفولوجية أو الفزيولوجية خلال فترة زمنية محددة، ويتميز التغير الاجتماعي بصفة الترابط والتداخل، فالتغير في الظاهرة الاجتماعية سيؤدي إلى سلسلة من التغيرات الفرعية التي تصيب الحياة بدرجات متفاوتة”(8).

كما عرفه موريس جينزبرج Morris Ginsberg على أنه “التغير الذي يحدث في طبيعة البناء الاجتماعي مثل زيادة أو تناقص حجم المجتمع أو في النظم والأجهزة الاجتماعية أو التغيرات اللغوية وكذلك يشمل المصطلح التغيرات في المعتقدات والمواقف”(9).

وكذلك عرفه جيرالد زالت مان G.Zaltman بأنه “تلك العملية التي تحدث بوساطتها تغيرات في بناء ووظيفة النظام الاجتماعي، فالبناء يتمثل في الأفراد وأوضاع الجماعات الذين يكونون هذا البناء وكذلك العلاقات الاجتماعية، أما الجانب الوظيفي فهو الدور والسلوك الفعلي للفرد في الموقف المتاح”(10).

وفي هذا الصدد حدد ولبرت مور Moore أهم سمات التغير كما يلي:

  • يحدث التغير في أي مجتمع أو ثقافة بشكل متتابع أو متلاحق ويتخذ شكل الاستمرارية والدوام.
  • يحدث التغير في كل مكان وعادة ما تكون نتائجه ذات أهمية بالغة في كل مكان أيضًا.
  • إن التغير إما أن يكون مخططًا مقصودًا (يكون تنمية) أو كنتيجة للآثار المترتبة على الابتكارات والمستحدثات المقصودة (يكون تغير).
  • كلما زادت قنوات الاتصال بحضارة ما بغيرها من الحضارات زادت إمكانية حدوث المستحدثات الجديدة.

عادة ما تكون سلسلة التغيرات التكنولوجية المادية والجوانب الاجتماعية المخططة منتشرة على نطاق واسع.


(1) طه محمد السيد,. (2020). ‘أهمية التخطيط الاستراتيجي القومي في تحقيق التنمية المستدامة (بالتطبيق على الحالة المصرية) دراسة بحثية‘, مجلة بحوث الشرق الأوسط, 8(58), pp. 203-236. doi: 10.21608/mercj.2020.122380.

(2) المرجع السابق، ص221.

(3) المرجع السابق، ص 221.

(4) طه محمد السيد، مرجع سابق، ص 222.

(5) صفاء علي رفاعي، مرجع سابق، ص38.

(6) هويدا محمد عبد المنعم خليفة. (2020). ‘التخطيط التشارکي لتحقيق الاستدامة للمشروع القومي للتنمية البشرية و المجتمعية‘, مجلة کلية الخدمة الاجتماعية للدراسات والبحوث الاجتماعية, 20(العدد 20 الجزء الاول), pp. 259-312. doi: 10.21608/jfss.2020.110501.

(7) صفاء علي رفاعي، أنثربولوجيا التنمية، بدون دار نشر، 2018، ص35.

(8) محمد ياسر الخواجة، علم اجتماع التنمية: المفاهيم والقضايا، دار ومكتبة الإسراء، طنطا، 2009، ص 16.

(9) فادية عمر الجولاني، التغير الاجتماعي: مدخل النظرية الوظيفية لتحليل التغير، المكتبة المصرية، الإسكندرية، بدون سنة نشر، ص12.

(10) عبد المنعم عبد الحي – وجدي شفيق عبد اللطيف، علم الاجتماع الحضري والصناعي، بدون دار نشر، 2004، ص287.