تمهيد تعتبر عملية إكساب الفرد للقيم والمعتقدات الاجتماعية، والتي اتفق على تسميتها “التنشئة الاجتماعية”، أحد أهم أعمدة بناء المجتمع الديموقراطي الحديث؛ فهي تحافظ…

تمهيد

تعتبر عملية إكساب الفرد للقيم والمعتقدات الاجتماعية، والتي اتفق على تسميتها “التنشئة الاجتماعية”، أحد أهم أعمدة بناء المجتمع الديموقراطي الحديث؛ فهي تحافظ على ديمومة الديموقراطية وتضمن سلامة انتقال مبادئها وقيمها من جيل إلى جيل، والمجتمع الذي يتمتع أفراده بثقافة اجتماعية واعية، يصعب على من يتولى الحكم فيه الانحراف عن المسار الديموقراطي، فهي توجه العمل الاجتماعي وترسم له الطريق.

وتهدف التنشئة الاجتماعية إلى تحقيق التثقيف الاجتماعي لأبناء المجتمع، ودعم الممارسة الاجتماعية في مختلف مستوياتها لكافة أبناء المجتمع، بدءًا من الاهتمام بالشئون العامة للمجتمع ومرورًا بالتصويت، ثم الانتساب للأحزاب وإدارة الحملات الانتخابية، ووصولاً إلى تقلد المواقع القيادية.

والتنشئة الاجتماعية عملية اجتماعية، تتم من خلال مؤسسات اجتماعية متعددة تختلف باختلاف المرحلة العمرية للفرد، وهي تبدأ من الأسرة مرورًا بالمدرسة ثم الجامعة ووصولاً إلى الأحزاب، وتختلف طبيعة هذا الدور باختلاف طبيعة هذه الأبنية والتي تختلف بدورها في المجتمعات النامية عنها في المجتمعات النامية.

وبناءً عليه، فسنحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على ظروف نشأة اصطلاح التنشئة الاجتماعية وأهم أهدافها وأبعادها وخصائصها، كما سنعرض لأهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية في المجتمع وطبيعة الدور الذي تؤديه كل مؤسسة.

أولاً : ظهور مفهوم التنشئة الاجتماعية:-

إن تحديد مفهوم التنشئة الاجتماعية وجد اهتمامات ملحوظة من جانب العديد من علماء السياسة والاجتماع والنفس، كما إن هناك من يرجع جذور الاهتمام بالتنشئة الاجتماعية إلى أفكار أفلاطون، والتي ركز فيها على أهمية تربية النشء في المدينة الفاضلة أو في المجتمع اليوناني القديم(1). فقد منح أفلاطون وأرسطو التدريب على الأنشطة الاجتماعية أهمية خاصة، وأكد روسو دور التربية في دعم القيم، وبالمثل اهتم الفلاسفة الليبراليون خلال القرن التاسع عشر بتلك العملية التي عبر عنها “لوى R.Lowe” بقوله: “الحاجة إلى تربية الرؤساء”. وخلال مراحل التاريخ المختلفة كان التعليم لأغراض اجتماعية ظاهرة معروفة(2).

أما في العصور الحديثة، فلقد اهتم الكثير من علماء السياسة من أمثال “تشارلز مريام C.Merriam” الذي حاول أن يتعرف على كيفية حدوث عمليات التنشئة الاجتماعية في العديد من الدول الأوروبية خلال القرن العشرين، وذلك عندما قام بتحليل هذه العملية في كل من ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة؛ وذلك بهدف التعرف على كيفية ظهور أو نشأة المواطنة Citizenship، وذلك عن طريق ما يعرف بـ”مؤسسات التدريب المدني” The Agents of civil training، وخاصة المؤسسات التعليمية “المدارس”(3).

وبالرغم من هذه الإرهاصات إلا أن معالجة مسائل التنشئة الاجتماعية ظلت معالجة ضمنية، أي من خلال تناول موضوعات أخرى مثل التصويت والسلوك الانتخابي، إلى أن نشر “هربت هايمان” كتابه عن التنشئة الاجتماعية عام 1959م(4).

ثانيًا: التنشئة الاجتماعية “عملية اجتماعية”:

          وتعتبر دراسة التنشئة الاجتماعية على وجه العموم إحدى موجهات دراسة التنشئة الاجتماعية، حيث يكون السلوك الاجتماعي للأفراد إحدى نتائج التنشئة الاجتماعية، وما تتضمنه من عمليات يتعلم الناس من خلالها كيف يبنون عالمهم الاجتماعي، وكيف يختارونه – إن كان هناك مجال للاختيار – من بين الأبنية والأنساق الاجتماعية القائمة في المجتمع، والتي تبدو مسايرة للتغير الاجتماعي، ومن خلال ذلك تخلق اتجاهات اجتماعية جديدة في المجتمع، يترتب بالتالي عليها نتائج اجتماعية قد تؤثر في النظام الاجتماعي القائم. وعلى هذا فمن الأهمية بمكان أن نضع في الاعتبار الأسس والموجهات الاجتماعية للسياسة، وهذا يتطلب بدوره أن يكون هناك مفهوم واضح لعملية التنشئة الاجتماعية من الناحية البنائية للمجتمعات المختلفة على الأقل، ففي كل مجتمع أكثر من مؤسسة تشترك جميعًا كلٍ بنصيب في عملية التنئشة، ومن هذه المؤسسات نذكر على سبيل المثال:-

– الأسرة.                 

– المدرسة والمؤسسات الاجتماعية على اختلافها.

– الموقع الذي يشغلة الفرد في العمل.

– المحيط الاجتماعي وما يتضمنه من سلوك يتشكل بواسطة الجماعات(5).

وسوف نعرض لذلك بشيء من التفصيل فيما بعد.

ثالثًا: أهمية عملية التنشئة الاجتماعية:

وتبرز أهمية عملية التنشئة الاجتماعية عبر الصراع والتنافس الدائرين بين النظام الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني، حيث يسعى كل طرف منها للهيمنة أو التأثير على قنوات التنشئة الاجتماعية؛ للحفاظ على استقرار النسق الاجتماعي، وإضفاء طابع المشروعية على نفوذهم وسلطتهم، ويسعى كل منهما للتحكم أو التأثير على قنوات التنئشئة بدءًا من المدرسة – التعليم الرسمي – وانتهاء بوسائل الإعلام(6).

من ناحية أخرى، تساهم التنشئة الاجتماعية في غرس المعتقدات والقيم والمفاهيم الاجتماعية في عقول الأفراد منذ بداية حياتهم “دور الأسرة”، وتعد استمرارية الثقافة من أهم الوظائف الاجتماعية لعملية التنشئة؛ فلكل جماعة ثقافتها الخاصة بها “العقائدية والاجتماعية التي تميزها عن بقية المجتمعات الأخرى”. فقضية التنشئة الاجتماعية لا تعد مطلبًا علميًّا أكاديميًّا فحسب، بل تمثل واقع الأمر ضرورة علمية يفرضها الواقع الاجتماعي والاجتماعي ذاته، وتتطلبها عملية التنمية القومية بصفة عامة، والتنمية الاجتماعية بوجه خاص – بوصفها تنمية نوعية في إطار عملية التنمية الشاملة؛ إذ تتوخي تطوير النظام الاجتماعي القائم، أو استحداث نظام اجتماعي عصري بديل يسمح بالمشاركة، ويؤكد على حقائق التكامل الاجتماعي وإمكانياته على نحو يوفر أوضاعًا مواتية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي في المجتمع – تتطلب هي الأخرى مزيدًا من الوعي الاجتماعي، ونضجًا في القرارات الاجتماعية لأعضاء المجتمع ومؤسساته، ويتحقق هذا كله من خلال تغيير أو تعديل نسق الثقافة الاجتماعية السائد أو تطويره، أو تطوير ثقافة اجتماعية جديدة تتواءم مع معطيات العصر ومتطلبات التنمية والتغيير، أي عن طريق تنشئة أعضاء المجتمع اجتماعيا وإعدادهم للمواطنة من خلال وكالات التنشئة الاجتماعية ومؤسساتها وفاعليتها المختلفة، وفي ضوء نسق إيديولوجي تقدمي ملائم يتوافق مع السياق الاجتماعي والنسق الثقافي للمجتمع، ويوفر في الوقت نفسه الحد الأدني من الاتفاق القيمي، ومن شأنه الإسهام في إنجاح جهود التعبئة الاجتماعية بما تنطوي عليه من توجهات وأفكار يسهل تقبلها والسلوك على هديها(7).

رابعًا : أهداف التنشئة الاجتماعية:

لقد سعت دومًا مؤسسات التنشئة إلى دعم وتعزيز عملية المشاركة الاجتماعية، باعتبارها هدفًا لعملية التنشئة الاجتماعية، ومؤشرًا للتنمية الاجتماعية، والتي تتمثل فيما يلي (8):

  1. تحقيق المساواة بين مواطني المجتمع، بغض النظر عن اختلافات الأصول أو الانتماءات أو الثقافات الفرعية Sub-Cultures.
  2. مشاركة الجماهير في صنع القرارات ديموقراطيًّا من خلال النظم البرلمانية والمؤسسات الدستورية والقانونية.
  3. عدم تركيز السلطات في يد هيئة واحدة، وتحقق الفصل بين السلطات، ووجود حق الاعتراض والنقد الموضوعي، وحق الجماهير في متابعة ومراقبة أجهزة السلطة، من خلال المؤسسات الشرعية.
  4. قيام السلطة على أسس عقلانية رشيدة، بحيث يكون تقلد المواقع القيادية مكفولاً للجميع وبشروط موضوعية، وتكون ممارسة السلطة وفقًا لقواعد وأسس قانونية، وفي إطار حدود يحددها الدستور.
  5. نمو قدرات الجماهير على إدراك مشكلاتهم والتعامل معها تعاملاً رشيدًا.
  6. تحقق الوحدة والتكامل الاجتماعي بين أجزاء المجتمع، من خلال كفاءة نظم التنشئة، ووجود حد أدنى من الاتفاق حول القيم الاجتماعية، مع وجود ولاء اجتماعي للسلطة المركزية، ويبرز أهمية هذا البعد في المجتمعات القبلية بشكل واضح. ويركز بعض الباحثين مثل “كارل دويتشKarl Deutsch” على أهمية أجهزة الاتصال الاجتماعي في تحقيق التكامل الاجتماعي والثقافي والاجتماعي.

كما تسعى التنشئة الاجتماعية إلى غرس مجموعة من القيم والمعتقدات، والتي تشكل مضمون الثقافة الاجتماعية في الأساس، ويمكننا تحديد هذه القيم فيما يلي:(9)

1- الشعور بالهوية القومية:

ويعتبر ذلك أهم المعتقدات الاجتماعية على الإطلاق، وهذا المتغير لا يقف عند حد البعد المادي “الإقامة في منطقة جغرافية محددة، وإنما يتعدى ذلك إلى البعد المعنوي والعاطفي”. وهذا الالتزام القومي يساعد النظام في أن يجتاز الكثير من الأزمات التي تواجهه أثناء عمليات التغيير الاجتماعي السريع،  كذلك فإن خلق إحساس بالهوية القومية هو العنصر الحاسم في بناء الأمة، أي بناء المجموعات والمؤسسات الاجتماعية المسماة بالدولة القومية يجب أن يسبقه خلق شعور لدى أفراد الأمة بالالتزام برموز اجتماعية عامة.

2- المنظمات الحكومية Out Puts:

وهنا تنصرف المعتقدات الاجتماعية إلى كيفية عمل الجسد الاجتماعي، أي إلى توقعات الأفراد بخصوص القرارات أو المخرجات الحكومية.

ولا ريب في أن للمعتقدات المتعلقة بالنشاط الحكومي دلالات معينة بخصوص فعالية واستقرار النظام الاجتماعي، فهي التي تحدد أهداف وغايات النظام الاجتماعي، كما تحدد العبء الذي يتحمله هذا النظام، ويتوقف مدى العبء على طبيعة الثقافة الاجتماعية السائدة في المجتمع، فالثقافة التي تركزعلى الاتجاهات الاجتماعية الإيجابية تفرض عبئًا ثقيلاً من المطالب على العملية الاجتماعية، وذلك على خلاف الثقافة التي تتضمن اتجاهات سلبية، بيد أن المنطلقات الحكومية ليست كلها سلعًا وخدمات تفيد أعضاء المجتمع الاجتماعي؛ فالشطر الأكبر من الأداء الحكومي يدور حول سلوك هؤلاء الأعضاء، واستخراج الموارد المادية منهم “الضرائب مثلاً”، ويرتبط بذلك مدى الاعتقاد في شرعية الحكومة كجهاز سلطوى في صنع القرار، فكلما اتسع هذا المدى سادت في المجتمع قيم اجتماعية تؤكد على الامتثال للقرارات المنبعثة من السلطة، وعلى العكس إذا ضاق المدى، فعندئذ ينظر إلى السلطة على أنها قوة عدوانية.

3- عملية صنع القرار:

تمثل المعتقدات المتعلقة بمسلك الحكومة في إعداد القرار وجهًا آخر من وجوه الثقافة الاجتماعية، ففي بعض المجتمعات قد لا يهتم الأفراد بمعرفة قواعد وأساليب إعداد القرار، وفي هذه الحالة يعتبر الأفراد أنفسهم مجرد رعية في المجتمع أكثر من كونهم مشاركين إيجابيين في العملية الاجتماعية… ولكن في حالات أخرى تؤكد المعتقدات الاجتماعية على ضرورة مشاركة الفرد إيجابيًّا في عملية إعداد المخرجات الحكومية وليس على مجرد الإذعان لتلك المخرجات عقب صدورها.

خامسًا: العوامل التي تؤثر في تكوين الوعي الاجتماعي:

وتخضع عملية تكوين الوعي الاجتماعي بدورها لمجموعة من العوامل، التي تؤثر بدورها في طيبعة مخرجات عملية التنشئة الاجتماعية، ونذكرمنها:(10)

1- التعليم:-

وله دور مهم في إنماء الوعي الاجتماعي وتكوينه، فالفرد الأكثر تعليمًا يكون أكثر إلمامًا بالمعلومات والمعارف التي تتصل بالموضوعات الاجتماعية، ويزداد أثر التعليم في رفع مستوى الوعي الاجتماعي للفرد في مراحل التعليم العليا.

2- التغير الثقافي:

والتغير الثقافي الذي يحدث في المجتمعات يؤدي إلى تأثر الوعي الاجتماعي بالقيم الجديدة، والتحول الثقافي في شتى الميادين، والأمثلة على ذلك عديدة، فلدينا الاتحاد السوفيتي منذ عام 1979، ومصر منذ عام 1952، واليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فكل دولة من تلك الدول مرت بظروف خاصة، مثل قيام ثورة أو هزيمة حربية أو استعمار، وأحدث ذلك فجوة في تاريخها؛ مما دفعها إلى رفض نظام سابق، وإجراء تغيير اجتماعي في أنظمتها، مما أدى إلى تغيير في بناء شخصية المواطن.

كما تنشأ القيم الاجتماعية عند الأفراد نتيجة مجموعة مكونات تعتبر بالتالي مكونات الثقافة الاجتماعية، وهي مجموعة من العناصر التي تتبناها الدولة “ثقافة الحكام”، أو الثقافة الرسمية، وتلك السائدة لدى أفراد المجتمع “المحكومين”، والتي تسمى بالثقافة غير الرسمية، ومن هذه المكونات:(11)

1- المرجعية:

وهي تعني الإطار الفكرى الفلسفي المتكامل، أو المرجع الأساسي للعمل الاجتماعي، فهو يفسر التاريخ ويحدد الأهداف والرؤى، ويبرز المواقف والممارسات، ويكسب النظام الشرعية، ومن أمثلة المرجعيات: “المرجعيات الدينية، الاشتراكية، الرأسمالية، العلمانية،…إلخ”، حيث إن توافق أعضاء المجتمع على نوعية المرجعيات يحقق الاستقرار نتيجة القناعات بها، وعندما يحدث الاختلاف بين عناصر النظام حول المرجعية تبدأ الانقسامات والأزمات التي تهدد شرعية النظام وبقاءه واستمراره.

2- الشعور بالانتماء “الإحساس بالهوية”:

ويعتبر البعض أن الإحساس بالانتماء من أهم المعتقدات الاجتماعية؛ ذلك أن شعور الأفراد بالولاء للنظام الاجتماعي يساعد على إضفاء الشرعية على النظام، كما يساعد على بقاء النظام وتخطية الأزمات والمصاعب التي تواجهه. فضلاً عن أن الإحساس بالولاء والانتماء للوطن يساعده على بلورة وتنمية الشعور بالواجب الوطني وتقبل الالتزامات، كما يمكن فهم الحقوق والمشاركة الفاعلة في العمليات الاجتماعية من خلال التعاون مع الجهات الحكومية والمؤسسات الاجتماعية، وتقبل قرارات السلطة الاجتماعية، والإيمان بالدور الفاعل لها في كافة مجالات الحياة.

3- التوجة نحو العمل العام:

بحيث يتوجه الفرد نحو تغليب المصلحة العامة والعمل الجماعي، الذي يعني الإيمان بأهمية العمل المشترك في المجالين الاجتماعي والاجتماعي. كما إن التوجه نحو العمل العام والإحساس بالمسئولية الاجتماعية تجاه المجتمع وقضاياه هما من أهم مكونات الثقافة الاجتماعية، وذلك أن الشعور بالمسئولية يدفع المواطن إلى الإيجابية في التعامل مع القضايا والموضوعات في ظل ثقافة متشابهة عند الأفراد، مؤداها الإحساس بالولاء للجماعة.

سادسًا: أبعاد التنشئة الاجتماعية:

ويوجد لدينا العديد من الأبعاد التي تقوم عليها أهداف عملية التنشئة الاجتماعية، وتتمثل فيما يلي:(12)

1- المشاركة الاجتماعية:-

حيث تتوقف مشاركة الفرد في الحياة الاجتماعية على نوعية المنبهات الاجتماعية التي يتعرض لها، علمًا أن مجرد التعرض للمنبه الاجتماعي لا يكفي وحده لدفع الفرد إلى المشاركة الاجتماعية، وإنما لابد كذلك أن يتوفر لديه قدر من الاهتمام الاجتماعي، والخبرة في التنشئة المبكرة؛ فالتجارب والخبرات التي تحدث في مرحلة الطفولة تلعب دورًا مهمًّا في تشكيل اتجاهات الأفراد وتوجيه سلوكهم الفعلي فيما بعد، ويستمر تأثير هذه التجارب والخبرات خلال مراحل حياتهم، حيث تتحدد مشاركتهم الاجتماعية.

2- التنشئة والتجنيد الاجتماعي :

ويقصد بالتجنيد الاجتماعي تقلد الأفراد للمناصب الاجتماعية، سواء سعوا إليها بدافع ذاتي أو وجههم آخرون إليها. وينحدر شاغلو المراكز الاجتماعية من ثقافات فرعية مختلفة، ولذا تصبح التنشئة الاجتماعية الفعالة عملية حيوية لتزويدهم بالمعرفة والمهارات الاجتماعية، حيث إن القيم والاتجاهات التي اكتسبها الفرد من معايشته للجماعات الأولية والوسائل التعليمية تظل تزاول تأثيرها عليه عند وجوده في مراكز صنع القرار.

3- التنشئة والاستقرار الاجتماعي :

المراد بالاستقرار هو قدرة النظام الاجتماعي على التخطيط المستمر الذي يكفل الاستقرار المجتمعي، ولكي يكفل ذلك لابد من العمل المستمر لزيادة واتساع حلقة الولاء من قبل أفراد المجتمع، وهذا يأتي من خلال وظيفة التنشئة الاجتماعية. وللتنشئة الاجتماعية بعدان باعتبارها وظيفة ضرورية لاستمرار النظام، أولها: البعد الرأسي، ومضمونه أن الجيل القادم ينقل ثقافة إلى الجيل اللاحق. وثانيهما: البعد الأفقي، ومؤداه أن يوجد اتساق بين قيم واتجاهات وسلوكيات أفراد الجيل السائد، بما يضمن قدرًا كبيرًا من التلاحم والترابط .

سابعًًا: خصائص التنشئة الاجتماعية :

وإذا ما حاولنا التعرض لخصائص عملية التنشئة الاجتماعية، لوجدنا أنها تختلف باختلاف ظروفها البيئية، لذا فيمكننا تناول طبيعة هذه العملية في بيئتين متمايزتين كالآتي:

1- خصائص التنشئة الاجتماعية في البلدان النامية:-

وتوجد بعض الخصائص لعملية التنمية في البلدان النامية، يمكننا من خلالها التفرقة بينها وبين سير هذه العملية في المجتمعات المتقدمة، وهذه الخصائص هي كالآتي:(13)

  • أن التنشئة الاجتماعية في البلدان النامية تميل إلى الارتباط بالمحلية والقبلية والعرقية، أكثر من ميلها للارتباط بالأنساق الاجتماعية القومية.
  • أن زيادة السكان في المجتمعات النامية قد تسبق قدرة هذه المجتمعات على تحديث حياة الأسرة التقليدية من خلال التصنيع والتعليم.

جـ- أن هناك تباينًا واضحًا في التعليم والقيم التقليدية بين الجنسين، فالمرأة ما تزال ترتبط بالقيم التقليدية بقوة، في الوقت الذي تقوم فيه بالدور المهم في التنئشة المبكرة للطفل.

د- أن تأثير التحديث كقوة مهمة في تحطيم القيم التقليدية، والذي يعتبر تغيرًا مهمًّا ومفاجئًا، يضعف بسبب قيام المجتمعات القبلية والعرقية في هذه البلدان.

2- التنشئة الاجتماعية في المجتمعات الصناعية:

وتبدو العلاقة بين التنشئة الاجتماعية والسلوك الاجتماعي في المجتمعات الصناعية أو المتقدمة أكثر وضوحًا وتمايزًا، وهي في كثير من الأحيان غير موجهة؛ نظرًا لسيادة القيم الفردية في تلك المجتمعات، وتضاؤل دور الأسرة بشكل واضح، ومن ثم فإن تأثير الأسرة على سلوك أعضائها الاجتماعي يكون محدودًا إن لم يكن غير واضح.

وغالبًا يكون الانتماء الطبقي هو المحدد الأول للانتماء الاجتماعي، حيث تمثل الطبقة الاجتماعية المصلحة المشتركة بين أعضائها، وعلى هذا قد ينحصر الصراع في هذه الحالة في النطاق الداخلى للطبقة، وقليلاً ما يخرج عن نطاقها، إلا إذا كان الصراع من أجل مصلحة مشتركة، وفي مواجهة طبقات أخرى في المجتمع، والسلوك الاجتماعي هنا يكون سلوكًا جماعيًّا وليس فرديًّا؛ إذ ينحصر الأخير في الصراع حول مناصب القيادة داخل الطبقة(14).

ثامنًا: مؤسسات التنشئة الاجتماعية:

إن عملية التنشئة الاجتماعية تأخذ مكانها منذ الطفولة المبكرة وحتى أواخر سن البلوغ، وتبدو المشاركة الاجتماعية وكأنها تتأثر على الأقل بعدة موجهات أهمها: الأسرة، والأصدقاء، ووسائل الإعلام ومؤسساتها والتي تمدنا بالمعلومات عن هذه العملية، والمصطلحات الاجتماعية والمواقف والمعايير والقدرات.

إن الجدل حول مصطلحات التنشئة الاجتماعية يتبلور في فرضيتين أساسيتين يتوجب الإشارة إليهما(15):

الأولى : أن المواقف الاجتماعية الناشئة والكفاءات أكثر أهمية من تلك المطلوبة لاحقًا.

الثانية : وهي فرضية الديمومة، التي تقر بأن المعرفة والكفاءات وتوجهات الأطفال والمراهقين تكون مهمة لحياتهم الاجتماعية كبالغين.

ونعرض فيما يلي لمراحل عملية التنشئة الاجتماعية، وذلك من خلال المؤسسات التي تقوم على هذه العملية:

1- الأسرة:

إن أول مرحلة من مراحل التنشئة تقوم بها الأسرة أو جماعة الأقرباء، وفي هذه المرحلة يبدأ الطفل في تعلم اللغة وبعض أنماط السلوك، ومن خلال هذه العملية الأولية تأخذ التنشئة الاجتماعية مكانها في سلوك الطفل، بل إن ما يتعلمه الطفل في تلك المرحلة قد يتحول إلى ما هو اجتماعي أو قد يندمج فيه على الأقل، ونستطيع أن نتبين ذلك بوضوح في تلك المجتمعات التي لا يبدو فيها التمايز الاجتماعي واضحًا أو قد يتلاشي(16).

وفي دراسة فلاناجن وأل “Flanagan et al, 1998″، أظهرت النتائج علاقة قيم الأسرة بالمصلحة العامة كهدف لحياة المراهقين من 12 – 18 سنة تقريبًا في ثلاث ديموقراطيات راسخة وأربعة انتقالية “أوروبا الشرقية” باستخدام عينات من (500) مفردة من كل دولة، وفي كل دولة وجدوا ارتباطًا بين إدراك هؤلاء المراهقين للقيم في أسرهم “مدى التأكيد على أخلاقيات المسئولية الاجتماعية” وبين إلى أي مدى يعتبرون أن المصلحة العامة هدف مهم في حياتهم أنفسهم(17).

ويبدأ الطفل في اكتساب اللغة من خلال اتصاله بالبيئة الثقافية من حوله بصورة عضوية، تقوم على التقليد والمحاكاة، ويتعرف في مرحلة مبكرة من عمره على المفاهيم الاجتماعية، إلا أنه لا يستطيع إدراكها في صورتها المركبة، لذا تلعب الرموز دورًا مهمًّا في تصور الطفل وفهمه للمعاني، حيث تتجسد المفاهيم في ذهنه بصورة شخصية وملموسة. ومن خلال الرموز التي تقدمها الأسرة يبلور الطفل مشاعر التعاطف أو العداء معها، فهي أداة لبناء التوجهات وتحديد الهوية منذ الطفولة المبكرة(18).

ولقد أكد عالم الاجتماع الفرنسي “إيميل دوركايم Emile Durkheim” على دور الوالدين والأسرة في تنشئة الطفل اجتماعيا؛ وذلك لأن جميع المكونات الثقافية الأولى تكون من الأسرة والوالدين؛ فالعائلة هي البداية الأساسية والأولى للبيئة الاجتماعية للطفل، وهذا يتضح في علم النفس الاجتماعي لدى الأطفال، وهناك ثلاث مراحل ضرورية في حياة الطفل الاجتماعية، يشير إليها “ديفيد إيستن David Easton”:(19)

أ – مرحلة التسيس – Politisation:

حينما يشعر الطفل بوجود عالم اجتماعي ومواقع اجتماعية في محيطه الاجتماعي.

ب- مرحلة الشخصية – Personnalisation:

حيث يدرك الطفل من خلال تعرفه على بعض الوجوه الاجتماعية، والتي تكون بمثابة نقاط اتصال مع النظام، ونرى هذه المرحلة بصورة واضحة وجلية في منطقة الشرق الأوسط، حيث يولد الطفل وحين ينشأ يرى الزعيم على السلطة، وقد يصل الطفل إلى سن العشرين أو أكثر من عمره وهو مع نفس الزعيم ونفس الأسلوب في تلك السلطة.

جـ- مرحلة تصوير وتكوين قيم محددة “Idealisation”:

عندما ينظر الطفل للسلطة من خلال بعض وجهات النظر التي كونها عنها، كأن تكون مقبولة لديه أو يرفضها شعوريًّا، وتدفعه إلى ردود فعل معينة مرضية أو غير مرغوب فيها.

هذا ويرجع “ريتشارد داوسن Richard E.Dawson” أهمية دور الأسرة إلى عاملين:- (20)

الأول: سهولة وصول الأسرة إلى الأشخاص المراد تنشئتهم، ففي السنوات التكوينية المبكرة من عمر الفرد تكاد تحتكر الأسرة عملية الوصول إلى الأفراد، وتؤكد بعض نظريات تكون الشخصية وتنمية وتطور الطفل والتنشئة على أن السنين الأولى المبكرة مهمة جدًّا في تكوين الخصائص الأساسية للشخصية، وفي تحديد الهوية الشخصية والاجتماعية، وإذا كانت الأفكار التي يتعرض لها الفرد والعلاقات الشخصية التي ينميها في السنين المبكرة من الحياة مهمة، فإنه من الطبيعي أن تلعب الأسرة دورًا أساسيًّا وأوليًّا بحكم سهولة وصولها للفرد في تلك المرحلة.

الثاني: قوة الروابط التي تربط بين أفراد الأسرة الواحدة تساعد على زيادة الأهمية النسبية لتأثير الأسرة في عملية التنشئة. وهذان العاملان: سهولة الوصول إلى الأفراد، والعلاقات الشخصية القوية، يجعلان الأسرة في وضع يمكنها من القيام بدور مؤثر ومهم في التنشئة.

2- المدرسة:

تلعب المدرسة دورًا مهمًّا في عملية التنشئة، وهذا ما أكد عليه علماء النفس والتربية من أمثال تشارلز مريام C. Merriam، عندما أشار إلى أن المدرسة تعتبر النظام التربوي الرسمي، الذي تقوم بعمليات التدريب المدني Civil Training، وبخلاف عمليات التنشئة الاجتماعية العامة التي تقوم بها المدارس، إلا أن التلاميذ يكتسبون أولى عمليات التنشئة الاجتماعية الرسمية من خلال النظام المدرسي. وهذا ما يتمثل سواء من خلال الكتب والمناهج الدراسة، وكذلك من خلال الأنشطة اليومية أو النظم الحياتية داخل هذه المؤسسات، كما إنها تقوم بعملية إعداد وخلق طبيعة وأشكال المواطنة Citizenship لدى التلاميذ. وإن كان هناك بالطبع فروق فردية تظهر بين التلاميذ من خلال عملية تنشئهم اجتماعيا، ولدى توليهم لدور القيادات أو لتقبلهم لهذا الدور بعد ذلك مستقبلاً. هذا فضلاً عن عمليات تكوين الاتجاهات والآراء والقيم، وهذا ما أيدته دراسات كل من “كينث لانجتون” K.langton و”م. جيننجز” M.Jennings، وريتشارد ينمى R.Niemi وغيرهم، والتي أكدت على دور المدرسة في اكتساب التلاميذ لأنماط معينة من التنشئة الاجتماعية، وإن كانت أشارت نتائج هذه الدراسات في نفس الوقت إلى أن هناك قطاعًا كبيرًا من التلاميذ لم يكتسب أي نمط من التنشئة الاجتماعية أو الإيديولوجيات العامة؛ نظرًا لدور الأسرة وجماعة الأصدقاء والمجتمع المحلي، والسلالات العنصرية في اكتساب أنماط الثقافة الاجتماعية(21).

أما فيما يتعلق بالمقررات الدراسية، فإنها يجب أن تتفق مع ملاحظات الطالب عن عالمه الاجتماعي؛ حتى يتقبلها الطالب ويترجمها مستقبلاً إلى سلوك عملي. وفي هذا الإطار يقول “ريتشارد داوسنRichard F.Dawson” أنه عندما ترسم الكتب المدرسية عالمًا اجتماعيا متفقًا مع ملاحظات الطالب عنه، ومتفقًا مع ما تم نقله من خلال قنوات التنشئة الأخرى، فإن الطالب سيكون أكثر استعدادًا لتقبل الدروس الاجتماعية التي تقدمها هذه الكتب. ولقد تأكد ذلك من خلال إحدى الدراسات التي أجريت حول التربية الوطنية في عدد من المدارس الثانوية الأمريكية، حيث وجدت الدراسة أن المقرر أثر على أنواع القيم الاجتماعية للطلبة.

ولقد ازدادت قوة التأثير عندما كان هناك اتساق بين القيم التي تعلمها الطالب في المدرسة، وبين القيم التي نقلت أبرزها بعض قنوات التنشئة الأخرى. ولكن التأثير ضعف وقل عندما كانت القيم التي طرحتها الكتب المدرسية متعارضة مع معايير وقيم بعض قنوات التعلم الاجتماعي الأخرى والأكثر قوة(22).

3- الجامعة:

إن الجامعة هي أهم مؤسسة لإنتاج الكوادر والأفكار وتطويرهما وكذلك توليدهما، وللجامعة دور حيوي وبارز في حياة المجتمعات البشرية، وقد قامت الجامعات بهذا الدور الفعال في البلدان المتقدمة من خلال مشاركة الجامعات في صنع القرار الاجتماعي للمجتمع. وعادة ما كانت الجامعات بمثابة قوة ضغط على الحكومة من خلال تقييد بعض ممارستها الاجتماعية، وتمارس الجامعة دورها الإيجابي إذا ما تم الربط بين المعرفة والإنتاج، أي: ربط الجامعة بهموم ومشاكل المجتمع، والعمل على تثقيف المواطنين، ووضع الخطط والبرامج التنموية والعملية ومراكز الأبحاث التي تعمل على زيادة الوعي الاجتماعي ونشره بين الطلبة والمجتمع. ويظهر دور الجامعة في إكساب الوعي الاجتماعي من خلال اهتمامات الجامعة بالأحداث والظروف الاجتماعية التي يمر بها المجتمع، وخاصة في العلوم الإنسانية. وهناك أمثلة في واقعنا الشرق أوسطي على دور الجامعة في التوعية الاجتماعية والعمل الاجتماعي، منها على سبيل المثال مشاركة طلاب جامعة السودان في تغيير الحكومة، فضلاً عن مشاركة الطلاب الجامعيين في الثورة الإسلامية في إيران. فالجامعة يجب ألا تنفصل عن المجتمع، ويجب عليها أن تنسجم معه، وتتعرف على المشاكل التي تحدث في الواقع، وتحاول جاهدة إيجاد الحلول الكفيلة لها وفقًا لواقع الناس وهمومهم الحياتية(23).

4- المجتمع المدني:

إن انضمام الفرد إلى عضوية جماعة معينة يؤثر في حالته النفسية؛ حيث يشعره بالانتماء إلى الجماعة التي يستمد منها هويته المستقلة المحددة، ويشجعه ذلك على المشاركة مع الآخرين داخلها والاستعداد للتضحية وإنكار الذات في سبيل الجماعة، وتلك شروط نفسية مطلوبة لصحة المجتمع ككل. أضف إلى ذلك أن مشاركة الفرد داخل المنظمة في ممارسة حقوقه الديموقراطية – كالدخول في حوار مع الأعضاء الآخرين – بمثابة مدرسة يتعلم فيها الفرد أصول هذا السلوك الديموقراطي على مستوى الجماعة الصغيرة التي ينتمي إليها، ليمارسه بنفس الحماس والإيجابية بعد ذلك على مستوى المجتمع ككل. فاعتياد الفرد على التصويت في انتخابات الجمعية أو المنظمة، يؤدي إلى تصويته في الانتخابات التي تجرى لاختيار النواب الذين يمثلونه في البرلمان، أو لاختيار الحكومة التي تحكمه(24).

ويتم ذلك من خلال غرس مجموعة من القيم والمبادئ في نفوس الأفراد من أعضاء جمعياته ومنظماته، وعلى رأسها قيم الولاء والانتماء والتعاون والتضامن والاستعداد لتحمل المسئولية، والمبادرة بالعمل الإيجابي، والاهتمام والتحمس بالشئون العامة للمجتمع ككل، بما يتجاوز الاهتمامات الخاصة والمصالح الشخصية الضيقة(25).

وفي هذا الصدد نجد أن الأحزاب الاجتماعية باعتبارها من أهم مؤسسات المجتمع المدني، تلعب دورًا مهمًّا يقترب إلى حد كبير من الدور الذي تلعبه الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية، خاصة في الدول النامية، أو في خلق وتغيير الثقافة الاجتماعية. فإذا سلمنا بأن هناك تخلفًا في نظم هذه الدول، فإن الحزب سوف يصبح أكثر من مجرد أداة انتخابية أو تجمع يعبر عن الموقف الاجتماعي لدى طائفة معينة من الجماهير. إن الحزب يستطيع أن يوفر العمل لعدد كبير من الناس، وأن يجعل بينهم وبين الحكومة القائمة صلات متنوعة، وهو ما يوفر المعلومات، ويحقق التكامل للجماعات المختلفة، ويقترح البرامج القومية(26).

– أيضًا فإن وظيفة تكوين واختيار الكوادر الاجتماعية، ترتبط بشكل مباشر بدور الأحزاب في التنشئة الاجتماعية؛ لأن الأحزاب تعتبر مدارس اجتماعية يتعلم فيها الأعضاء أصول السياسة, وتدريب القادة على القيادة والزعامة. وغالبًا ما تتعرف الجماهير على البارزين في تلك المدارس الحزبية، والذين غالبًا ما يتقدمون لخوض المعارك الانتخابية(27).

5- وسائل الاتصال الجماهيري:

تلعب وسائل الإعلام دورًا لا يقل عن دور الأسرة أو المدرسة في عملية التنشئة الاجتماعية والاجتماعية؛ فالصحف والمذياع والتلفاز وغيرها من وسائل الإعلام تدعم الاتجاهات الاجتماعية وتدعم القيم التراثية، وفي الوقت ذاته فهي التي تنقل المعلومات والأخبار من المواطن إلى الدولة والعكس بالعكس، حتى إن وسائل الإعلام قد امتد أثرها لنقل أخبار ومعلومات عن مجتمعات العالم ككل، وخاصة ما نراه اليوم من تقدم تكنولوجي ساهم في جعل العالم وكأنه وحدة واحدة، فما يحدث في واشنطن يمكن أن يسمع في نفس اللحظة في بومباي، والكتاب الذي يصدر في لندن لا يأخذ وقتًا طويلاً حتى يصل إلى طوكيو وهكذا. وتركز الدول الحديثة على وسائل الإعلام كأساسيات للتنشئة الاجتماعية، كما تركز من خلالها على تعميق شعور انتماء الأفراد للوطن وولائهم للدولة(28).

ويرى “انطوان أوريم Antoine Orem” أن لوسائل الاتصال الجماهيري دورًا مهمًّا في عمليات التنشئة الاجتماعية، وتشكيل الآراء والاتجاهات والقيم والمعتقدات الاجتماعية والإيديولوجية عند الأطفال أو الراشدين في نفس الوقت. وخاصة أن الفرد العادي يمكث أمام هذه الوسائل لفترات متعددة لإشباع حاجاته الأساسية من المعلومات والأخبار والأحداث، كما تسهم في تكوين اتجاهاته ورغباته وتطلعاته المستقبلية. ولقد أجريت دراسات كثيرة  في الولايات المتحدة للكشف عن مدى تأثير هذه الوسائل “الاتصال الجماهيري” في حدوث مظاهرات الشغب والعنف ذات الطابع السلالي العرقي. وجاءت نتائج هذه الدراسات لتشير إلى أن دور وسائل الاتصال الجماهيري كان وراء ظهور هذه الأحداث بين البروتستانت والكاثوليك؛ نتيجة لتتبعهم أخبار أيرلندا الشمالية قبل حدوث الاتفاق الاجتماعي بين الطائفتين خلال السنوت الأخيرة من التسعينيات. وهذا ما يفسر أيضًا حدوث الاضطرابات والمظاهرات في الشوارع الأمريكية بين اليهود والمسلمين، عندما تقوم وسائل الاتصال الجماهيري بنقل أحداث الشرق الأوسط وفلسطين خاصة(29).

وبالرغم من ذلك، تستطيع وسائل الإعلام الجماهيرية أن تصل إلى الغايات المنشودة والأهداف المرسومة فيما يخص التنشئة الاجتماعية، وذلك عندما تتفق تلك الوسائل في عرضها للأفكار التي تريد إيصالها لأفراد المجتمع، وأن لا تتعارض مع بعضها البعض؛ لأن تعارضها يخلق بلبلة وتشويشًا لدى المواطنين مما يجعلهم ينقسمون إيديولوجيًّا وقيميًّا، فمن الأهمية بمكان أن تكون هذه الوسائل مكملة واحدة للأخرى عن طريق ما تعرضه من أفكار واتجاهات تلائم مستويات الجماهير الثقافية والاجتماعية، ومعتمدة في ذلك على أسلوب الإقناع والمشاركة، وبذلك تمارس التأثير المنظم في الرأي العام، ويتوقف ذلك على الاستعداد النفسي والاجتماعي والثقافي لدى الأفراد في تقبل المادة التي تنشرها وسائل الإعلام(30).

من ناحية أخرى يمكن للمجتمعات النامية أن تعتمد على وسائل الإعلام الجماهيرية في التنشئة الاجتماعية لتأدية عدة مهام منها:(31)

  1. تستخدم وسائل الإعلام في زيادة الشعور بالانتماء إلى أمة وإلى قومية، وبدون ذلك الانتماء ما من دولة تستطيع أن تخترق حاجز التخلف الاقتصادي. وهكذا بفضل وسائل الإعلام يتوحد الشعب في الداخل، ويقوى نفوذ الدولة القومي في الخارج، وبفضل وسائل الإعلام أيضًا تتشجع الجماهير فتساهم في التطوير القومي والإقلال من القلق الاجتماعي.
  2. تعلم الجماهير مهارات جديدة، وهناك روابط وعلاقات وثيقة في الدول النامية بين التعليم وما تنشره وسائل الإعلام.
  3. غرس الرغبة في التغيير وزيادة آمال الجماهير، حيث إن وسائل الإعلام تعتبر من الأدوات الرئيسية التي يمكن بواسطتها تعليم الشعوب في الدول النامية طرقًا جديدة للتفكير والسلوك.
  4. تشجع الجماهير على المساهمة، ونقل صوتها إلى القيادة الاجتماعية؛ لكي تحافظ على إحساس الجماهير بأهميتها أو إحساسها بالمساهمة.

6- المؤسسات الدينية:

          تلعب المؤسسات الدينية دورًا مهمًّا رئيسيًّا في عملية التنشئة الاجتماعية في جميع البلدان، حيث تعتبر كل من “المساجد، الكنائس، المراكز والهيئات والمعاهد الدينية” أدوات فاعلة في بث القيم وتوجيه سلوك الأفراد. ولا شك بأن النظام الاجتماعي يستفيد كثيرًا كلما زاد التطابق بين القيم التي يدعوا إليها والقيم التي تتبناها المؤسسة الدينية، وعلى النقيض تلك التي يدعوا إليها والقيم التي تتبناها المؤسسة الدينية، كما تقوم المؤسسات الدينية بتنشئة الفرد من خلال تعليمه المعايير السماوية التي تحكم سلوكه، وتمده بسلوكيات أخلاقية، وتنمي مفهوم التعاون مع الآخرين؛ مما تعكس هذه المؤسسات أثارها على بقية المؤسسات الأخرى التي يعمل أو يتعامل معها الأفراد(32).


(1) عبد الله محمد عبد الرحمن، علم الاجتماع الاجتماعي “النشأة التطورية والاتجاهات”، مرجع سابق، ص 455 .

(2) محمد على محمد، “أصول الاجتماع الاجتماعي” الجزء الثالث، مرجع سابق، ص237 .

(3) عبد الله محمد عبد الرحمن، مرجع سابق، ص455.

(4) محمد علي محمد، مرجع سابق، ص237.

(5) إسماعيل علي سعد، المجتمع والاجتماعية “دراسة في النظريات والمذاهب والنظم” / الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1999، ص293.

(6) ناصر محمود رشيد شيخ علي، دور منظمات المجتمع المدني في تعزيز المشاركة الاجتماعية في فلسطين، رسالة ماجستير غير منشورة، فلسطين، جامعة النجاح الوطنية: كلية الدراسات العليا، 2008، ص29.

(7) قارح سماح، التغير الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية، الجزائر, كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم علم الاجتماع، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، العددان الثاني والثالث، 2008، ص5 .

(8) نبيل السمالوطى، بناء القوة والتنمية الاجتماعية، مرجع سابق ص149.

(9) عبدالهادى الجوهرى – فاروق يوسف – إبراهيم أبو الغار، دراسات في علم الاجتماع الاجتماعي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1997، ص.ص 94، 95.

(10) محمود مصطفى الشال وآخرون، التنشئة الاجتماعية، مرجع سابق، ص 236.

(11) محمد المقداد، دور مناهج التعليم الجامعي في التنشئة الاجتماعية، حالة دراسة ميدانية، الأردن، جامعة آل البيت، معهد بيت الحكمة، أبحاث اليرموك، سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، مجلد 24 العدد (1)، مارس 2008، ص.ص 316، 317.

(12) المرجع السابق، ص313.

(13) إسماعيل على سعد، الاتجاهات الحديثة في علم الاجتماع، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 2000، ص 25.

(14) هشام محمود الأقداحى، الشخصية القومية ” تحليل تاريخي – اجتماعي – اجتماعي، الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، 2009، ص 65.

(15) Steve Schwarzer, political socialization as the driving factor for political engagement and political participation, paper prepared for the ELECDEM workshop in ” advanced techniques for political communication research: content analysis”, March 20-24/2011, Amsterdam, page 3. http://www.elecdem.eu/media/universityofexeter/elecdem/pdfs/amsterdamwksp/Steve_Schwarzer_Political_socialization.pdf

(16) هشام محمود الأقداحي، مرجع سابق، ص64.

(17) Jon Lauglo, political socialization at home and young peoples educational achievement and ambition, university of Oslo Norway, institute of educational research, faculty of education, 2009, p9.

(18) أسامة أحمد مشعل، الأحزاب والثقافة الاجتماعية “دراسة ميدانية بمحافظة كفرالشيخ”، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة طنطا: كلية الآداب، قسم الاجتماع، 2009، ص147.

(19) زيرفان سليمان البرداوى، الوعي الاجتماعي وتطبيقاته “الحالة الكردستانية نموذجًا”، دهوك، مطبعة خانى، 2006، ص36 .

(20) مولود زايد الطيب، مصادر التنشئة الاجتماعية ودورها في تنمية الفكر الإيدولوجي، “دراسة تحليلية”، ليبيا، جامعة السابع من أبريل, كلية الآداب، 2003، ص3.

(21) عبد الله محمد عبد الرحمن، علم الاجتماع الاجتماعي، مرجع سابق، ص455.

(22) مولود زايد الطيب، مصادر التنشئة الاجتماعية ودورها في تنمية  التفكير الأيدولوجى، مرجع سابق، ص5 .

(23) زيرفان سالم البرداوى، مرجع سابق، ص38.

(24) ناهد عز الدين، المجتمع المدني، القاهرة، مركز الدراسات الاجتماعية والاستراتيجية بالأهرام، 2000، ص38.

(25) ناصر عبد الله أبو زيتون، دور مؤسسات المجتمع المدني في التنمية المستدامة في المجتمع الأردني، رسالة دكتوراة غير منشورة، جامعة عين شمس: كلية الآداب، قسم الاجتماع، 2007، ص 285.

(26) محمد على محمد، أصول الاجتماع الاجتماعي، مرجع سابق، ص177.

(27) وحيد سيد أحمد، الديموقراطية والانتخابات المصرية، مرجع سابق، ص197.

(28) مولود زايد الطيب، مصادر التنشئة ودورها في تنمية الفكر الإيدولوجي، مرجع سابق، ص 9.

(29) عبدالله محمد عبدالرحمن، مرجع سابق، ص 456 .

(30) مولود زايد الطيب، التنشئة الاجتماعية ودورها في تنمية المجتمع، مرجع سابق، ص89.

(31) المرجع السابق، ص 90.

(32) محمد المقداد، مرجع سابق، ص315.